شرح الحديث 98 - باب المجاهدة - رياض الصالحين لأبي فائزة
[98] الرابع: عن عائشة
_رَضي الله عنها_: "أنَّ
النَّبيّ _صلى الله عليه وسلم_ كَانَ يقُومُ مِنَ اللَّيلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ
قَدَمَاهُ، فَقُلْتُ
لَهُ : "لِمَ تَصنَعُ هَذَا يَا رسولَ الله، وَقدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟" قَالَ :
«أَفَلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْداً شَكُوراً» . مُتَّفَقٌ
عَلَيهِ، هَذَا لفظ البخاري. ونحوهُ في الصحيحين من رواية المغيرة بن شعبة. |
ترجمة
عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-
( خ م د ت س ق
) : عائشة بنت أبى بكر الصديق عبد الله بن عثمان
أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة القرشية التيمية، أم المؤمنين ، تكنى: أم
عبد الله ،
و
أمها:
أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة ابن سبيع بن دهمان بن
الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة ،
و قيل غير ذلك
فى نسبها ، و أجمعوا أنها من بنى غنم بن مالك بن كنانة .
تزوجها
رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بمكة قبل الهجرة بسنتين فى قول
أبى عبيدة ، و
هى بنت ست سنين،
و بنى بها بالمدينة، بعد منصرفه من وقعة بدر فى شوال سنة اثنتين (2 هـ) من الهجرة، و هى بنت تسع
سنين (9).
ثناء
على عائشة
عن أبى موسى
الأشعري:
"ما أشكل
علينا أصحاب محمد _صلى الله عليه وسلم_ حديث قط فسألنا عائشة عنه، إلا وجدنا عندها
منه علما .
عن قبيصة بن ذؤيب قال :
"فكنت
أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن نجالس أبا هريرة، وكان عروة بن الزبير يغلبنا بدخوله
على عائشة،
وكانت
عائشة أعْلَمَ الناسِ، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله _صلى
الله عليه وسلم_."
عن مسروق: "رأيت
مشيخة أصحابِ محمدٍ الأكابرَ يسألونها عن الفرائض."
و قال الشعبى:
"كان
مسروق إذا حدث عن عائشة، قال: حدثتنى الصادقة بنت الصديق، حبيبةُ حبيبِ اللهِ، الْمُبَرَّأَةُ
مِنْ فَوْقِ سَبْع سَمَاوَاتٍ.
وقال هشام بن
عروة، عن أبيه:
"ما رأيت
أحدا أعلم بفقه و لا بطلب و لا بشعر من عائشة." اهـ
وقال عطاء بن
أبى رباح:
"كانت
عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، و أحسن الناس رأيا فى العامة." اهـ
و قال الزهرى:
"لو
جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبى _صلى الله عليه وسلم_،
وعِلْمِ جميْعِ النساءِ، لكان علم عائشة أفضل."
و قال أبو
عثمان النهدى، عن عمرو بن العاص: قلتُ لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أى الناس أحب إليك؟" قال: "عائشة." قلت:
"فمن الرجال؟" قال: "أبوها."
وفى الصحيح عن
أبى موسى الأشعرى، عن النبى _صلى الله عليه وسلم_ قال:
"فضل
عائشة على النساءِ، كفضل الثريد على سائر الطعام."
و مناقبها و
فضائلها كثيرة جدا رضى الله عنها و أرضاها .
العدة في شرح
العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار (1/ 102_103)
واختصَّت
عائشةُ بفضائل لم يشركْها أحدٌ من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها:
الأولى: أنه -
صلى الله عليه وسلم - تزوجها بِكْرًا دون غيرها.
الثانية: أنها
خُيِّرَتْ فاختارتِ اللهَ ورسولَه على الفور، وكُنَّ تبعًا لها في ذلك.
الثالثةُ:
نزول آية التَّيَمُّم بسبب عِقْدِها حين حبسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -
النَّاس، وقال أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرِ: ما هيَ بأولِ بركتِكم يا آلَ أبي بكر.
الرَّابعةُ:
نزولُ براءتها من السَّماء.
الخامسة:
جَعْلُها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة.
السادسةُ:
تَتَبُّعُ الناس بهداياهم يومَها؛ لما علموا من حبِّه - صلى الله عليه وسلم - لها.
السابعة:
اختيارُه - صلى الله عليه وسلم - أن يُمَرَّضَ في بيتها.
الثامنةُ:
وفاته - صلى الله عليه وسلم - بين سَحْرِها ونحرِها.
التاسعة:
وفاته في يومها.
العاشرةُ:
وفاته - صلى الله عليه وسلم - في بيتها.
الحاديةَ
عشرةَ: دفنُه - صلى الله عليه وسلم - في بيتِها.
الثانية عشرة:
[بيتها] بقعة هي أفضلُ بقاع الأرض مطلقًا، وهي مدفنه - صلى الله عليه وسلم -،
وادعى القاضي عياض الإجماع عليه.
الثالثةَ
عشرةَ: أنها رأتْ جبريلَ - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحيةَ الكلبيِّ، وسلَّم
عليها.
الرَّابعةَ
عشرةَ: كانت أحبَّ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه.
الخامسةَ عشر:
اجتماعُ ريقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريقِها في آخر أنفاسه.
السَّادسةَ
عشرةَ: كانت أكثرَهن علمًا.
السَّابعةَ
عشرةَ: كانت أفصحَهن لسانًا.____
الثامنةَ
عشرةَ: لم ينزلِ الوحيُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لِحاف امرأةِ
غيرها.
التَّاسعةَ
عشرةَ: أن جبريلَ جاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بصورتها قبل أن
يتزوَّجها.
العشرون: لم
ينكح النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبواها مُهاجران بلا خلاف سواها.
الحاديةُ
والعشرون: كان أبوها أحبَّ الرجال إليه، وأعزهم عليه - صلى الله عليه وسلم -.
الثَّانيةُ
والعشرونَ: كان لها يومان وليلتان في القَسْم دونهن لمَّا وهبتْها سَوْدَةُ بنتُ
زمعةَ يومَها وليلتَها.
الثالثةُ
والعشرون: أنَّها كانت تغضب، فيترضَّاها - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت ذلك
لغيرها.
الرَّابعةُ
والعشرون: لم ينزلْ بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجا، وللمسلمين بركة.
الخامسةُ
والعشرون: لم يَرْوِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ حديثًا أكثرَ منها.
السَّادسةُ
والعشرون: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يتتبع رضاها في المباحات؛ كضرب الجواري
إليها، وجعل ذقنها على عاتقه، ووقوفه لتنظر إلى الحَبَشَةِ يلعبون." اهـ
وفاة
عائشة :
قال سفيان بن
عيينة ، عن هشام بن عروة : توفيت عائشة سنة سبع و خمسين .
وصلى
عليها أبو هريرة .
و أَمَرَتْ أن
تدفن ليلا ، فدفنت بعد الوتر بالبقيع ، و صلى عليها أبو هريرة و نزل فى قبرها خمسة : عبد الله بن الزبير ، و عروة بن
الزبير ، و القاسم بن محمد بن أبى بكر ، و أخوه عبد الله بن محمد بن أبى بكر ، و
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر .
و توفى النبى
صلى الله عليه وسلم و هى بنت ثمانى عشرة سنة (18) . وعمرها 64 سنة.
روى لها
الجماعة . اهـ .
نص
الحديث وشرحه:
عن عائشة _رَضي الله عنها_:
"أنَّ
النَّبيّ _صلى الله عليه وسلم_ كَانَ يقُومُ مِنَ اللَّيلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ
قَدَمَاهُ،
فَقُلْتُ لَهُ
: "لِمَ تَصنَعُ هَذَا يَا رسولَ الله، وَقدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟"
قَالَ :
«أَفَلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْداً شَكُوراً» . مُتَّفَقٌ
عَلَيهِ، هَذَا لفظ البخاري.
ونحوهُ في الصحيحين من رواية المغيرة بن شعبة.
قال ابن القيم
_رحمه الله_ في "عِدَةِ الصابرين وذخيرة الشاكرين" (ص: 148):
"وشكر
العبد يدور على ثلاثة أركانٍ، لا يكون شكورا، إلا بمجموعها:
* أحدها:
اعترافه بنعمة الله عليه،
* والثانى:
الثناء عليه بها،
* والثالث:
الاستعانة بها على مرضاته." اهـ
تخريج
الحديث:
أخرجه البخاري
في "صحيحه" (6/ 135) (رقم: 4837)، ومسلم في "صحيحه" (4/ 2172)
(رقم: 2820)، أحمد في مسنده (41/ 340) (رقم: 24844)، والشافعي كما في "السنن
المأثورة" للمزني (ص: 165) (رقم: 85)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم
قدر الصلاة" (1/ 241) (رقم: 225)، والخرائطي في "فضيلة الشكر لله على
نعمته" (ص: 49) (رقم: 52)، والطبراني في "المعجم الصغير" (1/ 128)
(رقم: 190)،وفي "المعجم الأوسط" (4/ 138) (رقم: 3810)، وأبو الشيخ
الأصبهاني في "أخلاق النبي" (3/ 162) (رقم: 565) والبيهقي في "السنن
الكبرى" (رقم: 4294 و 13274)، تمام الرازي في "الفوائد" (2/ 261)
(رقم: 1689)، أبو نعيم في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (8/ 289) عن
عائشة _رضي الله عنهما_.
وأما الحديث
المشار إليه عن المغيرة بن شعبة _رضي الله عنه_،
فقد أخرجه صحيح البخاري (2/ 50 و 6/ 135 و 8/ 99)
(رقم: 1130 و 4836 و 6471)، صحيح مسلم (4/ 2171/ 79_80) (رقم: 2819)، سنن الترمذي
ت شاكر (2/ 268) (رقم: 412)، سنن النسائي (3/ 219) (رقم: 1644)، سنن ابن ماجه (1/
456) (رقم: 1419).[1]
قلت: قد ورد
نحوه _أيضا_ عن أبي هريرة. فقد أخرجه الترمذي في
"الشمائل المحمدية" – ط. المكتبة التجارية (ص: 222) (رقم: 263_264)، النسائي
في "سننه" (3/ 219) (رقم: 1645)، ابن ماجه في "سننه" (1/ 456)
(رقم: 1420).[2]
وورد عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي _رضي الله عنه_ فيما
أخرجه الخرائطي في "فضيلة الشكر لله على نعمته" (ص: 48) (رقم: 48)، وابن
الأعرابي في "المعجم" (2/ 808) (رقم: 1651)، والطبراني في "المعجم
الكبير" (22/ 132) (رقم: 352) بسند فيه ضعف، لأجل: عبد
الله بن واقد أبي قتادة الحراني، وهو متروك!
من
فوائد الخديث :
1/ إنكار
على من نسب إليه التقصير في العمل للاتكال على المغفرة
وقال زين
الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، السَلامي،
البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795 هـ) _رحمه
الله_ في كتابه "فتح الباري" (1/ 91):
"ففي هذه الأحاديث كلها: الإنكارُ على
من نسب إليه التقصير في العمل للاتكال على المغفرة؛ فإنه كان يجتهد في الشكر أعظم
الاجتهاد فإذا عوتب على ذلك وذكرت له المغفرة أخبر أنه يفعل ذلك شكرا." اهـ
2/ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ أَخْذُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّدَّةِ فِي
الْعِبَادَةِ
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى: 852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري"
(3/ 15):
"قَالَ بن بَطَّالٍ:
"فِي
هَذَا الْحَدِيثِ أَخْذُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّدَّةِ فِي
الْعِبَادَةِ، وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ لِأَنَّهُ _صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا سَبَقَ لَهُ
فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَضْلًا عَمَّنْ لَمْ يَأْمَنْ أَنَّهُ
اسْتَحَقَّ النَّارَ." انْتَهَى.[3]
وَمَحَلُّ
ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْمَلَالِ، لِأَنَّ حَالَ النَّبِيِّ _صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كَانَتْ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ لَا يَمَلُّ
مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ،
بَلْ صَحَّ
أَنَّهُ قَالَ :
"وَجُعِلَتْ
قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ."[4]،
كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
فَأَمَّا
غَيْرُهُ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، فَإِذَا خَشِيَ الْمَلَلَ، لَا
يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْرِهَ نَفْسَهُ.
وَعَلَيْهِ
يُحْمَلُ قَوْلُهُ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ : "خُذُوا مِنَ
الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا."
اهـ
3/ وَفِيهِ:
مَشْرُوعِيَّةُ الصَّلَاةِ لِلشُّكْرِ، وَفِيهِ: أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ
بِالْعَمَلِ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى: 852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري"
(3/ 15):
* "وَفِيهِ: مَشْرُوعِيَّةُ الصَّلَاةِ
لِلشُّكْرِ،
* وَفِيهِ:
أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْعَمَلِ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ،
كَمَا قَالَ
اللَّهُ _تَعَالَى_ :
{اعْمَلُوا
آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]،
* وَقَالَ
الْقُرْطُبِيُّ:
"ظَنَّ
مَنْ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّهُ
إِنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ خَوْفًا مِنَ الذُّنُوبِ وَطَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ
وَالرَّحْمَةِ،
فَمَنْ
تَحَقَّقَ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَفَادَهُمْ أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا آخَرَ لِلْعِبَادَةِ،
وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى الْمَغْفِرَةِ وَإِيصَالُ النِّعْمَةِ لِمَنْ لَا
يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِيهَا شَيْئًا،
فَيَتَعَيَّنُ
كَثْرَةُ الشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالشُّكْرُ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ
وَالْقِيَامُ بِالْخِدْمَةِ. فَمَنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ سُمِّيَ "شَكُورًا"،
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ _سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى_ :
{وَقَلِيلٌ
مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]،
* وَفِيهِ مَا
كَانَ النَّبِيُّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ عَلَيْهِ مِنَ
الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّهِ.
قَالَ
الْعُلَمَاءُ:
"إِنَّمَا
أَلْزَمَ الْأَنْبِيَاءُ أَنْفُسَهُمْ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ لِعِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ
نِعْمَةِ اللَّهِ _تَعَالَى_ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ بِهَا قَبْلَ
اسْتِحْقَاقِهَا، فَبَذَلُوا مَجْهُودَهُمْ فِي عِبَادَتِهِ، لِيُؤَدُّوا بَعْضَ
شُكْرِهِ مَعَ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهَا الْعِبَادُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ [انظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 121)]
ففي "شرح
صحيح البخارى" لابن بطال (3/ 121_122):
"وإنما
ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدة الخوف، وإن كانوا قد أمنوا، لعلمهم بعظيم نعم
الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل___استحقاقها،
فبذلوا
مجهودهم فى شكره تعالى بأكبر مما افترض عليهم فاستقلوا ذلك.
ولهذا المعنى
قال طلق بن حبيب: (إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن
تحصى ولكن أصبحوا قانتين وأمسوا تائبين)،
وهذا كله
مفهوم من قوله تعالى:
(إنما يخشى
الله من عباده العلماء) [فاطر: 28]." اهـ
4/ الشُّكْرَ
يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالصَّبْرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى: 852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (11/
305):
"وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الشُّكْرَ
يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالصَّبْرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.
قَالَ بَعْضُ
الْأَئِمَّةِ: "الصَّبْرُ يَسْتَلْزِمُ الشُّكْرَ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ،
وَبِالْعَكْسِ. فَمَتَى ذَهَبَ أَحَدُهُمَا، ذَهَبَ الْآخَرُ، فَمَنْ كَانَ فِي
نِعْمَةٍ، فَفَرْضُهُ الشُّكْرُ وَالصَّبْرُ :
أَمَّا
الشُّكْرُ، فَوَاضِحٌ. وَأَمَّا الصَّبْرُ، فَعَنِ الْمَعْصِيَةِ. وَمَنْ كَانَ
فِي بَلِيَّةٍ، فَفَرْضُهُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ:
أَمَّا
الصَّبْرُ، فَوَاضِحٌ. وَأَمَّا الشُّكْرُ: فَالْقِيَامُ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ
فِي تِلْكَ الْبَلِيَّةِ، فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ عُبُودِيَّةً فِي
الْبَلَاءِ، كَمَا لَهُ عَلَيْهِ عُبُودِيَّةً فِي النَّعْمَاءِ.
ثُمَّ
الصَّبْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صَبْرٌ عَنِ
الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَرْتَكِبُهَا، وَصَبْرٌ عَلَى
الطَّاعَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، وَصَبْرٌ عَلَى
الْبَلِيَّةِ فَلَا يَشْكُو رَبَّهُ فِيهَا.
وَالْمَرْءُ
لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ. فَالصَّبْرُ لَازِمٌ لَهُ
أَبَدًا، لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْهُ. وَالصَّبْرُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ كُلِّ كَمَالٍ.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ بِقَوْلِهِ فِي
الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: (إِنَّ الصَّبْرَ خَيْرُ مَا أُعْطِيَهُ الْعَبْدُ).
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ :
"الصَّبْرُ
تَارَةً يَكُونُ لِلَّهِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِاللَّهِ:
فَالْأَوَّلُ :
الصَّابِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، فَيَصْبِرُ عَلَى الطَّاعَةِ
وَيَصْبِرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ
وَالثَّانِي :
الْمُفَوِّضُ لِلَّهِ بِأَنْ يَبْرَأَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَيُضِيفَ
ذَلِكَ إِلَى رَبِّهِ،
وَزَادَ
بَعْضُهُمُ الصَّبْرَ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ: الرِّضَا
بِالْمَقْدُورِ.
فَالصَّبْرُ
لِلَّهِ يَتَعَلَّقُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالصَّبْرُ بِهِ يَتَعَلَّقُ
بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَالثَّالِثُ : يَرْجِعُ إِلَى الْقِسْمَيْنِ
الْأَوَّلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ،
فَإِنَّهُ لَا
يَخْرُجُ عَنِ الصَّبْرِ عَلَى أَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ
أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَالصَّبْرِ عَلَى ابْتِلَائِهِ وَهُوَ
أَحْكَامُهُ الكونية وَالله اعْلَم." اهـ
5/ فيه:
اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَطُولِ الْقِيَامِ فِيهَا شُكْرًا لِنِعَمِ اللهِ
وقال محمد بن
إبراهيم النيسابوري الشافعي، المعروف بـ"أبي بكر ابن
المنذر" (المتوفى: 319هـ) _رحمه الله_ في "الأوسط في السنن
والإجماع والاختلاف" (5/ 162):
"ذِكْرُ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ
وَطُولِ الْقِيَامِ فِيهَا شُكْرًا لِنِعَمِ اللهِ". اهـ
وفي
تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 448) :
"وَيُقَالُ: الشُّكْرُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
شُكْرٌ عَامٌّ، وَشُكْرٌ خَاصٌّ،
* فَأَمَّا
الشُّكْرُ الْعَامُّ: فَهُوَ الْحَمْدُ
بِاللِّسَانِ، وَأَنْ يَعْتَرِفَ بِالنِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا
الشُّكْرُ الْخَاصُّ: فَالْحَمْدُ بِاللِّسَانِ،
وَالْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ، وَالْخِدْمَةُ بِالْأَرْكَانِ، وَحِفْظُ اللِّسَانِ،
وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ عَمَّا لَا يَحِلُّ." اهـ
وفي
تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 449):
تَمَامُ
الشُّكْرِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا: إِذَا أَعْطَاكَ اللَّهُ شَيْئًا،
فَتَنْظُرُ مَنِ الَّذِي أَعْطَاكَ فَتَحْمَدُهُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَرْضَى بِمَا أَعْطَاكَ. وَالثَّالِثُ: مَا دَامَ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ
مَعَكَ، وَقُوَّتُهُ فِي جَسَدِكَ لَا تَعْصِهِ.
وَرَوَى
مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ _رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا_، أَنَّهُ قَالَ:
(إِنَّ
لِلَّهِ _تَعَالَى_ مِنْ خَلْقِهِ صَفْوَةً، إِذَا أَحْسَنُوا، اسْتَبْشَرُوا،
وَإِذَا أَسَاءُوا، اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا أُنْعِمُوا شَكَرُوا، وَإِذَا
ابْتُلُوا صَبَرُوا)." اهـ
6/ وفيه:
أنَّ الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان
وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز
رياض الصالحين" (ص: 90):
"وفيه: أنَّ الشكر يكون بالعمل كما يكون
باللسان." اهـ
7/ فيه
بيان اجتهاده في العبادة
تطريز رياض
الصالحين (ص: 660):
"هذا السؤال من عائشة عن حكمة التشمر
والدأب في الطاعة، وهو مغفور له، فبين _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ أنه فعل
ذلك شكرًا لله _عز وجل_." اهـ
شرح صحيح
البخارى لابن بطال (10/ 130):
"فكان اجتهاده فى الدعاء، والاعتراف
بالذلل والتقصير، والأعواز والافتقار إلى الله تعالى شكرًا لربه، كما كان اجتهاده
في الصلاة حتى ترم قدماه شكرًا لربه،
إذ الدعاء لله
_تعالى_ من أعظم العبادة له، وليسُنّ ذلك لأمته _صلى الله عليه وسلم_، فيستشعروا
الخوف والحذر، ولا يركنوا إلى الأمن، وإنْ كثرتْ أعمالُهُمْ وعبادتُهم لله _تعالى_."
اهـ
حاشية السندي
على سنن ابن ماجه (1/ 434)
زَعَمُوا
أَنَّ الْإِكْثَارَ فِي الْعِبَادَةِ لِتَحْصِيلِ الْمَغْفِرَةِ فَحِينَ
حُصُولِهَا لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِكْثَارِ أَشَارَ فِي الْجَوَابِ إِلَى أَنَّ
الْإِكْثَارَ فِيهَا قَدْ يَكُونُ لِأَدَاءِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَعِبَادَتُهُ
مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَغْفِرَةِ
وَالْمُبَالَغَةَ فِيهِ لَا النُّقْصَانَ.
شرح النووي
على مسلم (17/ 162):
"قَالَ الْقَاضِي :
"الشُّكْرُ
مَعْرِفَةُ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِ وَالتَّحَدُّثُ بِهِ[5]،
وَسُمِّيَتِ
الْمُجَازَاةُ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ شُكْرًا، لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ
الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.
وَشُكْرُ
الْعَبْدِ اللَّهَ _تَعَالَى_: اعْتِرَافُهُ بِنِعَمِهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ،
وَتَمَامُ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى طَاعَتِهِ.
وَأَمَّا
شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَفْعَالَ عِبَادِهِ: فَمُجَازَاتُهُ إِيَّاهُمْ
عَلَيْهَا، وَتَضْعِيفُ ثَوَابِهَا، وَثَنَاؤُهُ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ،
فَهُوَ
الْمُعْطِي وَالْمُثْنِي _سُبْحَانَهُ_. وَالشَّكُوْرُ مِنْ أَسْمَائِهِ _سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى_ بهذا المعنى، والله أعلم." اهـ[6]
7/ فمن
عظُمتْ عليه نِعَمُ اللهِ، وجب عليه أن يتلقاها بعظيم الشكر
وقال أبو
الحسن علي بن خلف البكري، المعروف بـ"ابن بطَّال
القرطبي" (المتوفى: 449 هـ) _رحمه الله_ في "شرح صحيح البخاري"
(3/ 364):
"فمن عظُمتْ عليه نِعَمُ اللهِ، وجب
عليه أن يتلقاها بعظيم الشكر، لاسيما أنبياءه وصفوته من خلقه الذين اختارهم.
وخشيةُ العباد لله___على قدر علمهم به." اهـ
8/ وفيه:
أن العبادة تكون لاستجلاب المغفرةِ وللشكر عليها
وقال محمد بن
إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني"
(المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "التحبير لإيضاح معاني التيسير"
(6/ 12):
"وفيه: أن العبادة تكون لاستجلاب
المغفرة وللشكر عليها، وبالشكر يطلب المزيد: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}
[إبراهيم: 7]." اهـ
وفي "التنوير
شرح الجامع الصغير" (8/ 613) للصنعاني:
"قال:
(أفلا أكون عبداً شكوراً)، فأخبر أن عبادته شكرٌ لمولاه على غفرانه له ما تقدم من
ذنبه، وما تأخر." اهـ
9/ وفي
هذا: دليل على أن الشكر هو القيام بطاعة الله
وقال الشيخ محمد
بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (2/ 71):
"وفي هذا: دليل على أن الشكر هو القيام
بطاعة الله، وأن الإنسان كلما أزداد في طاعة ربه _عز وجل_، فقد ازداد شكراً لله ـ
عز وجل ـ؛
وليس الشكر
بأن يقول الإنسان بلسانه: (أشكر الله، أحمد الله)؛ فهذا شكر باللسان، لكنّ الكلامَ
هنا على الشكر الفعلي الذي يكون بالفعل بأن يقوم الإنسان بطاعة الله بقدر ما
يستطيع.
وفي "صحيح
ابن حبان" (2/ 9):
"ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ
أَنْ يَقُومَ فِي أَدَاءِ الشُّكْرِ لِلَّهِ _جَلَّ وَعَلَا_، بِإتْيَانِ
الطَّاعَاتِ بِأَعْضَائِهِ دُونَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ." اهـ
10/
وفي هذا: دليل على أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر
وقال الشيخ محمد
بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (2/ 71):
وفي
هذا: دليل
على أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر[7]؛
كل ما تقدم من
ذنبه، فقد غفر الله له. كل ما تأخر، فقد غفر الله له، وقد خرج من الدنيا ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ سالماً من كل ذنب؛ لأنه مغفور له.
وقد يخص الله
أقواماً، فيغفر لهم ذنوبهم بأعمال صالحة، قاموا بها مثل أهل بدر." اهـ
11/
وفي هذا: دليل أيضاً على فضيلة قيام الليل، وطول القيام
وقال الشيخ محمد
بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (2/ 73):
"وفي هذا: دليل
أيضاً على فضيلة قيام الليل، وطول القيام، وقد أثنى الله على من يقوم الليل
ويطيلون، فقال _عز وجل_ : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة:
16)، يعني تبتعد عن الفرش، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) أي: إذا نظروا إلى
ذنوبهم خافوا (وَطَمَعاً) أي: إذا نظروا إلى فضل الله طمعوا في فضله :
(وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 16، 17)،
أسال الله أن
يجعلني وإياكم منهم." اهـ
12/
فيه: بيان ما كان عليه النبي _صلى اللَّه عليه وسلم_ من كثرة العبادة، والاجتهاد
فيها، والخشية من ربّه _عَزَّ وَجَلَّ_
ذخيرة العقبى
في شرح المجتبى (17/ 375) للشيخ محمد بن علي بن آدم الأثيوبي _حفظه الله_ :
"في فوائده:
* منها: ما
كان عليه النبي _صلى اللَّه عليه وسلم_ من كثرة العبادة، والاجتهاد فيها، والخشية
من ربّه _عَزَّ وَجَلَّ_، مع أنه غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر؛ ليكون
عبداً شكورًا.
قال العلماء
رحمهم اللَّه: إنما ألزم الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - أنفسَهم بشدّة الخوف،
لعلمهم بعظيم نعمة اللَّه تعالى عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا
مجهودهم في عبادته، ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق اللَّه تعالى أعظم من أن يقوم بها
العباد. واللَّه تعالى أعلم.
* ومنها: أن
الشكر يكون بالعمل، كما يكون باللسان، كما قال اللَّه تعالى: {اعْمَلُوا آلَ
دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع
والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل." اهـ
وفي
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (11/ 126) للإثيوبي:
"ومنها: بيان هدي النبي -صلى الله عليه
وسلم- من تكثير النوافل، مع كونه غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ليكون عبدًا
شكورًا، كما قال لعائشة رضي الله عنها: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". اهـ
13/
الْمُؤْمِنُ دَائِمًا فِي نِعْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ تَقْتَضِي شُكْرًا، وَفِي ذَنْبٍ
يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ
وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ) _رحمه الله_ في
"مجموع الفتاوى" (16/ 187):
"فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا فِي نِعْمَةٍ
مِنْ رَبِّهِ تَقْتَضِي شُكْرًا، وَفِي ذَنْبٍ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ."
اهـ
14/
فيه: بيان حقيقة الشكر
وقال محمد بن
أبي بكر الدمشقي، المشهور بـ"ابن قيم الجوزية"
(المتوفى: 751 هـ) _رحمه الله_ في "طريق
الهجرتين وباب السعادتين" (ص: 346):
"قال: (أَفَلا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً)،
فسمى الأعمال
شكراً، وأخبر أنَّ شكْرَه قيامُه بها ومحافظته عليها، فحقيقة
الشكر: هو الثناءُ على النعم ومحبته والعمل بطاعته." اهـ
15/
كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا، يحتاج إلى شكر عليها
وقال ابن رجب _رحمه
الله_ في "لطائف المعارف" (ص: 221):
"كل نعمة على العبد من الله في دين أو
دنيا، يحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيقُ للشكر عليها نعمةٌ أخرى تحتاج إلى شكرٍ
ثانٍ،
ثم التوفيق
للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر أخر،
وهكذا أبدا، فلا يقدر العبد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر
الإعتراف بالعجز عن الشكر." اهـ
16/ فيه: بيان منزلة رسول الله في الشكر
وقال الشيخ عبد الرزاق البدر _حفظه الله_ في "فقه
الأدعية والأذكار" (1/ 274):
أمَّا شكرُ
خاتم النبيّين وسيِّد ولد آدم أجمعين (محمدِ بن عبد الله _عليه أفضلُ الصلاة وأزكى
التسليم_) فبابٌ واسعٌ، وبحرٌ خِضَمٌّ،
فهو أعرفُ
الخلق بالله، وأقومُهم بخشيته، وأشكرُهم لنعمه، وأعلاهم عنده منزلةً." اهـ
تفسير ابن
كثير ت سلامة (7/ 328):
"وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ
لِرَسُولِ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، وَهُوَ _صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ_ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ
وَالِاسْتِقَامَةِ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ، لَا مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَلَا مِنَ الْآخِرِينَ،
وَهُوَ
أَكْمَلُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ." اهـ
وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الوَلَّوِي المشهور بـ"الإثيوبي" (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في
"البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (43/ 534_536):
في فوائده:
1 - (منها): بيان ما كان عليه النبيّ _صلى
الله عليه وسلم_ من كثرة العبادة، والاجتهاد فيها، والخشية من ربّه _عز وجل_، مع
أنه غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر؛ ليكون عبدًا شكورًا.___
قال العلماء
رحمهم الله:
إنما ألزم
الأنبياءُ -عليهم الصلاة والسلام- أنفسَهم بشدّة الخوف، لعلمهم بعظيم نعمة الله
تعالى عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته، ليؤدوا
بعض شكره، مع أن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم بها العباد. والله تعالى أعلم.
2 - (ومنها): أن فيه مشروعيةَ الصلاة للشكر،
وأن الشكر يكون بالعمل، كما يكون باللسان، كما قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ
دَاوُودَ شُكْرًا} الآية [سبأ: 13].
3 - (ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله:
"في هذا
الحديث: أخْذ الإنسان على نفسه بالشدّة في العبادة، وإن أضرّ ذلك ببدنه؛ لأنه -صلى
الله عليه وسلم- إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لم يعلم بذلك، فضلًا
عمن لم يأمن أنه استحق النار." انتهى.
قال الحافظ:
"ومحل
ذلك ما إذا لم يُفض إلى الملال؛ لأن حال النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ كانت أكمل
الأحوال،
فكان لا
يَمَلّ من عبادة ربه، وإن أضرّ ذلك ببدنه، بل صحّ أنه قال: (وجُعلت قرة عيني في
الصلاة)، كما أخرجه النسائيّ من حديث أنس -رضي الله عنه-،
فأما غيره
-صلى الله عليه وسلم-، فإذا خشي الملل لا ينبغي له أن يُكره نفسه، وعليه يُحْمَل
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (خُذُوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى
تملوا)". انتهى ["الفتح" 3/ 524 رقم (1130)].
4 - (ومنها): ما قاله بعض العلماء: ما ورد في
القرآن والسُّنَّة منِ ذكر ذنب لبعض الأنبياء _عليهم الصلاة والسلام_، كقوله:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:
121]،
ونحو ذلك فليس
لنا أن نقول ذلك في غير القرآن والسُّنَّة، حيث ورد، وُيؤَوَّل ذلك على ترك
الأَولى، وسُمّيت ذنوبًا لِعِظَم مقدارهم، كما قال بعضهم: (حسنات الأبرار سيئات
المقربين)،
وعلى هذا فما
وجه قول من سأله من الصحابة _رضي الله عنهم_ بقوله: "أتتكلف هذا، وقد غفر لك
ما تقدم من ذنبك، وما تأخر"؟ .
والجواب: أن
من سأله عن ذلك إنما أراد به ما وقع في "سورة الفتح"، ولعل بعض الرواة
اختصر عزو ذلك إلى الله؛ لِمَا جاء في حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_: "تفعل
ذلك، وقد جاءك من الله أن قد غفر لك ما تقدم من ذنبك___وما تأخر"، ولك أن
تقول: دلّ قوله: "وما تأخر" على انتفاء الذنب؛ لأن ما لم يقع إلى الآن
لا يسمى ذنبًا في الخارج، وأراد الله تأمينه بذلك؛ لشدة خوفه حيث قال النبيّ -صلى
الله عليه وسلم-: "إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية"،
فأراد: لو وقع
منك ذنب لكان مغفورًا، ولا يلزم من فرض ذلك وقوعه، والله _تعالى أعلم_." ["عمدة
القاري" (7/ 180)]. اهـ
[1] صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/
397) (رقم: 619)
[2] صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/
398) (رقم: 620)
[3] وفي شرح صحيح البخارى لابن
بطال (3/ 121_122) :
"قال المهلب : "فيه أخذ الإنسان على نفسه بالشدة فى
العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، وذلك له حلال، وله أن يأخذ بالرخصة ويكلف نفسه ما عفت
له به وسمحت، إلا أن الأخذ بالشدة أفضل،
ألا
ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أفلا أكون عبدًا شكورًا) ، فكيف من لم يعلم أنه
استحق النار أم لا؟ فمن وفق للأخذ بالشدة فله فى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ،
أفضل الأسوة. وإنما ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدة الخوف، وإن كانوا قد
أمنوا، لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل___استحقاقها، فبذلوا
مجهودهم فى شكره تعالى بأكبر مما افترض عليهم فاستقلوا ذلك. ولهذا المعنى قال طلق
بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى ولكن
أصبحوا قانتين وأمسوا تائبين، وهذا كله مفهوم من قوله تعالى: (إنما يخشى الله من
عباده العلماء) [فاطر: 28] ." اهـ
[4] أخرجه النسائي في سننه (7/
61) (رقم : 3940)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 599) (رقم :
3124)
[5] شرح صحيح البخارى لابن
بطال (10/ 183_184) :
"قال الطبرى : وقد اختلف السلف فى حد الشكر فقال بعضهم: شكر
العبد لربه على أياديه عنده رضاؤه بقضائه، وتسليمه لأمره فيما نابه من خير أو شر،
ذكره الربيع بن أنس عن بعض أصحابه. وقال آخرون: الشكر لله هو الإقرار بالنعم أنها
منه، وأنه المتفضل بها، وقالوا الحمد والشكر بمعنى واحد روى ذلك عن ابن عباس وابن
زيد. قال الطبرى: والصّواب فى ذلك أن شكر العبد هو إقراره بأن ذلك من الله دون
غيره وإقرار الحقيقة الفعل، ويصدقه العمل، فأما___الإقرار الذى يكذبه العمل، فإن
صاحبه لا يستحق اسم الشاكر بالإطلاق، ولكنه يقال شكر باللسان والدليل على صحة ذلك
قوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ: 13] ، ومعلوم أنه لم يأمرهم، إذ
قال لهم ذلك، بالإقرار بنعمه؛ لأنهم كانوا لا يجحدون أن يكون ذلك تفضلا منه عليهم،
وإنما أمرهم بالشكر على نعمه بالطاعة له بالعمل، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم)
حين تفطرت قدماه فى قيام الليل: (أفلا أكون عبدًا شكورًا)." اهـ
[6] انظر كلام القاضي في إكمال
المعلم بفوائد مسلم (8/ 355)
[7] وفي شرح رياض الصالحين (2/
73) :
"قال بعض العلماء : واعلم أن من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة
والسلام ـ أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبناءً عليه: فكل حديث
يأتي بأن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه حديث ضعيف، لأن هذا من
خصائص الرسول، أما (غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فهذا كثير، لكن (ما تأخر) ، هذا ليس
إلا للرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وهو من خصائصه، وهذه قاعدة عامة نافعة لطالب
العلم؛ أنه إذا أتاك حديث فيه أن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛
فاعلم أن قوله (ما تأخر) ضعيف لا يصح؛ لأن هذا من خصائص محمدٍ - صلوات الله وسلامه
عليه." اهـ
Komentar
Posting Komentar