شرح الحديث 97 - باب المجهادة - من رياض الصالحين
[97]
الثالث: عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قَالَ: قَالَ
رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نِعْمَتَانِ
مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ» . رواه. البخاري. |
ترجمة عبد
الله بن عباس _رضي الله عنهما_ :
وفي سير أعلام
النبلاء ط الرسالة (3/ 331_359) للذهبي باختصار :
"عَبْدُ
اللهِ بنُ عَبَّاسٍ البَحْرُ أَبُو العَبَّاسِ الهَاشِمِيُّ * (ع):
حَبْرُ
الأُمَّةِ، وَفَقِيْهُ العَصْرِ، وَإِمَامُ التَّفْسِيْرِ، أَبُو العَبَّاسِ
عَبْدُ اللهِ، ابْنُ___عَمِّ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ شَيْبَةَ بنِ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بنُ
عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيِّ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ
غَالِبِ بنِ فِهْرٍ القُرَشِيُّ، الهَاشِمِيُّ، المَكِّيُّ، الأَمِيْرُ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ -.
مَوْلِدُهُ:
بِشِعْبِ
بَنِي هَاشِمٍ، قَبْلَ عَامِ الهِجْرَةِ بِثَلاَثِ سِنِيْنَ.
صَحِبَ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْواً
مِنْ ثَلاَثينَ شَهْراً، وَحَدَّثَ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ صَالِحَةٍ.
انتَقَلَ
ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أَبَويهِ إِلَى دَارِ الهِجْرَةِ سَنَةَ
الفَتْحِ، وَقَدْ أَسْلَمَ قَبلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ:
(كُنْتُ أَنَا
وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِيْنَ؛ أَنَا مِنَ الوِلْدَانِ، وَأُمِّي مِنَ
النِّسَاءِ).
قَالَ عَلِيُّ
بنُ المَدِيْنِيِّ: تُوُفِّيَ ابْنُ عَبَّاسٍ
سَنَةَ ثَمَانٍ (68 هـ)، أَوْ سَبْعٍ وَسِتِّيْنَ (67 هـ).
وَقَالَ
الوَاقِدِيُّ، وَالهَيْثَمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ: سَنَةَ ثَمَانٍ. وَقِيْلَ: عَاشَ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ سَنَةً.
و(مُسْنَدُهُ): أَلْفٌ وَسِتُّ مائَةٍ وَسِتُّوْنَ [1660] حَدِيثاً.
وَلَهُ مِنْ
ذَلِكَ فِي (الصَّحِيْحَيْنِ): خَمْسَةٌ وَسَبْعُوْنَ. وَتَفَرَّدَ: البُخَارِيُّ
لَهُ بِمائَةٍ وَعِشْرِيْنَ حَدِيثاً، وَتَفَرَّدَ: مُسْلِمٌ بِتِسْعَةِ
أَحَادِيْثَ." اهـ
نص
الحديث وشرحه:
عن ابن عباس _رضي
الله عنهما_ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نِعْمَتَانِ مَغبونٌ فيهما
وفي "فتح
الباري" لابن حجر (11/ 230):
"وَقَوْلُهُ
(نِعْمَتَانِ) تَثْنِيَةُ نِعْمَةٍ، وَهِيَ:
الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَنْفَعَةُ الْمَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ
الْإِحْسَانِ لِلْغَيْرِ." اهـ
وفي
"مجالس التذكير من حديث البشير النذير" (ص: 135) لعبد الحميد بن بادس
الصنهاجي:
"النعمة: ما يفعل على وجه الإحسان ضد النقمة، وهي ما يفعل
على وجه العقوبة. المغبون: المنقوص في حقه أصله من
غبن في البيع إذا نقص من حقه، ثم يستعمل في كل من نقص من حظه في كل شيء." اهـ
وفي
"فتح الباري" لابن حجر (11/ 230):
"وَالْغَبَنُ بِالسُّكُونِ وَبِالتَّحْرِيكِ،
وَقَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: "هُوَ فِي الْبَيْعِ بِالسُّكُونِ، وَفِي الرَّأْيِ
بِالتَّحْرِيكِ.
وَعَلَى
هَذَا، فَيَصِحُّ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ، فَإِنَّ مَنْ لَا
يَسْتَعْمِلُهُمَا فِيمَا يَنْبَغِي، فَقَدْ غَبَنَ لِكَوْنِهِ بَاعَهُمَا
بِبَخْسٍ، وَلم يُحْمَدْ رَأْيُه فِي ذَلِك." اهـ
وفي
"شرح المصابيح" لابن الملك (5/ 381):
"الغَبن: خروج الشيء من اليد بغير عِوَض." اهـ
كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ:
وفي عمدة
القاري شرح صحيح البخاري (23/ 31) :
"قَوْله:
(كثير) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره هُوَ قَوْله : (مغبون) مقدما
وَالْجُمْلَة خبر قَوْله: (نعمتان)."
الصِّحَّةُ،
وَالفَرَاغُ» . رواه. البخاري.
وفي
عمدة القاري شرح صحيح البخاري (23/ 31) للعيني :
"قَوْله:
(والفراغ) أَي: الْأُخْرَى مِنْهُمَا الْفَرَاغ، وَهُوَ عدم مَا يشْغلهُ من
الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة." اهـ
وفي
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3225) للقاري :
"(الصِّحَّةُ
وَالْفَرَاغُ) أَيْ: صِحَّةُ الْبَدَنِ وَالْقُوَّةُ الْكَسْبِيَّةُ وَفَرَاغُ
الْخَاطِرِ بِحُصُولِ الْأَمْنِ، وَوُصُولُ كِفَايَةِ الْأَمْنِيَّةِ،
وَالْمَعْنَى لَا يَعْرِفُ قَدْرَ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ حَيْثُ لَا يَكْسِبُونَ فِيهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ كِفَايَةَ مَا
يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَعَادِهِمْ فَيَنْدَمُونَ عَلَى تَضْيِيعِ
أَعْمَارِهِمْ عِنْدَ زَوَالِهَا وَلَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ. قَالَ تَعَالَى:
{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ
بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» [طب (رقم : 182)، ضعيف الترغيب والترهيب
(1/ 453) (رقم : 910)]". اهـ
وفي
"مجالس التذكير من حديث البشير النذير" (ص: 135) لعبد الحميد بن بادس
الصنهاجي :
"الصحة:
اعتدال المزاج، وقوة البنية ضد المرض. الفراغ:
الخلاء ومصدر فرغ يفرغ إذا كان خاليا من الشغل. وهذا هو المراد هنا." اهـ
وفي
"فتح الباري" لابن حجر (11/ 230):
وَقَوْلُهُ
فِي الْحَدِيثِ (مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) كَقَوْلِهِ _تَعَالَى_ : {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }
[سبأ: 13]
فَالْكَثِيرُ
فِي الْحَدِيثِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَلِيلِ فِي الْآيَة." اهـ
وفي
"الإفصاح عن معاني الصحاح" (3/ 213) لابن هبيرة الشيباني :
"أراد
_صلى الله عليه وسلم_ أنَّ مَنْ أَصَحَّ اللهُ جِسْمَهُ وفَرَّغَهُ من شواغل هذه
الدنيا، فلم ينفق صحتَه الواقعةَ في طرف من الزمان فارغٍ عن شاغل له في أربحِ
التجائر، وأعلى المكاسب من معاملة الله _سبحانه وتعالى_ في أعلى المقامات التي وعد
عليها سبحانه بأنه يحب أهلها، ويكرمهم، ويقدمهم منه فإنه مغبون." اهـ
وفي
"الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" (10/ 122_123) للكوراني الحنفي
(المتوفى 893 هـ):
"فإن
قلت: ما معنى هذا الكلام؟ قلت: له وجهان حسنان:
الأول: أن يراد أن قليلًا من الناس من يحصل له
الصحة والفراغ، بل من الناس من لا يحصل له منهما شيء ومنهم من يجد أحدهما دون
الآخر، فهذا مغبون لأنه فقد رأس المال الذي كان يتوصل به إلى المطلوب إما كلًّا أو
بعضًا ويؤيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح آمنًا في سربه
معافًا في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".___
والوجه
الثاني:
أن كثيرًا من الناس يُرزق الصحةَ والفراغَ، ولم يدخرهما يوم الحاجة إما أن يموت
على ذلك أو يفوتا منه ما ينفعه، ويبقى في الحسرة والندامة،
ويؤيد هذا
المعنى قولُهُ _صلى الله عليه وسلم_: (من صحتك لمرضك) [خ][1]".
اهـ
تخريج
الحديث :
أخرجه البخاري
في "صحيحه" (8/ 88) (رقم : 6412)، والترمذي في "سننه" – ت.
شاكر (4/ 550) (رقم : 2304)، سنن ابن ماجه (2/ 1396) (رقم : 4170)
من
فوائد الحديث :
1/ من
لم يعمل في فراغه وصحته فهو مغبون.
وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في
"تطريز رياض الصالحين" (ص: 89):
"في هذا
الحديث: أنَّ من لم يعمل في فراغه وصحته فهو مغبون. قال الله تعالى: {يَوْمَ
يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن (9) ] .
وفي الحديث:
«اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك
قبل فقرك، وحياتك قبل موتك»." اهـ
وقال عبد
الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى:
911 هـ) _رحمه الله_ في "قوت المغتذي على جامع الترمذي" (2/ 559):
"قال ابن
الخازن:
"النعمة
ما يتنعَّم به الإنسان ويستلذه، والغبن: أن يشتري بأضعاف الثمن، أو يبيع بدُون ثمن
المثل،
فمن
صحَّ بدنه وتفرغ للأشغال العائقة، ولم يَسْعَ لإصلاح آخرته، فهو
كالمغبُون في البيع". اهـ
وفي
"جامع العلوم والحكم" – ت. الأرنؤوط (2/ 387_388):
"وَقَالَ
غُنَيْمُ بْنُ قَيْسٍ: "كُنَّا نَتَوَاعَظُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ: ابْنَ
آدَمَ اعْمَلْ فِي فَرَاغِكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَفِي شَبَابِكَ لِكِبَرِكَ، وَفِي
صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَفِي دُنْيَاكَ___لِآخِرَتِكَ، وَفِي حَيَاتِكَ
لِمَوْتِكَ." اهـ
2/
الحرص على عدم الغبن لأجل ترك الشكر
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى: 852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري"
(11/ 230)
"قَالَ
بن بَطَّالٍ:
مَعْنَى
الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ فَارِغًا حَتَّى يَكُونَ مَكْفِيًّا
صَحِيحَ الْبَدَنِ،
فَمَنْ
حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَحْرِصْ عَلَى أَنْ لَا يَغْبِنَ بِأَنْ يَتْرُكَ شُكْرَ
اللَّهِ
عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ،
وَمِنْ
شُكْرِهِ: امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ. فَمَنْ فَرَّطَ فِي
ذَلِكَ فَهُوَ الْمَغْبُونُ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ (كَثِيرٌ) مِنَ النَّاسِ إِلَى أن
الَّذِي يوفق لذَلِك قَلِيل." اهـ
وفي "غذاء
الألباب في شرح منظومة الآداب" (2/ 534) للسفاريني:
"الشُّكْرُ:
صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ
لِأَجْلِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: (هُوَ: أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ
بِنِعَمِهِ)." اهـ
وفي
"حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (3/ 22):
عن
غَسَّانُ قَالَ :
حَدَّثَنِي
بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنَ الْبَصْرِيِّينَ قَالَ:
"جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ فَشَكَى إِلَيْهِ ضِيقًا مِنْ حَالِهِ
وَمَعَاشِهِ، وَاغْتِمَامًا مِنْهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ
لَهُ يُونُسُ: (أَيَسُرُّكَ بِبَصَرِكَ هَذَا الَّذِي تُبْصِرُ بِهِ
مِائَةُ أَلْفٍ؟)، قَالَ: "لَا"،
قَالَ: (فَسَمْعُكَ
الَّذِي تَسْمَعُ بِهِ، يَسُرُّكَ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟) قَالَ: "لَا"،
قَالَ: (فَلِسَانُكَ
الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟)، قَالَ: "لَا"،
قَالَ: (فَفُؤَادُكَ
الَّذِي تَعْقِلُ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟)، قَالَ: "لَا"،
قَالَ: (فَيَدَاكَ
يَسُرُّكَ بِهِمَا مِائَةُ أَلْفٍ؟) قَالَ: "لَا"
قَالَ: "فَرِجْلَاكَ؟)
قَالَ:
فَذَكَّرَهُ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يُونُسُ، قَالَ: "أَرَى
لَكَ مِئِينَ أُلُوفًا، وَأَنْتَ تَشْكُو الْحَاجَةَ؟!" وأخرجه ابن أبي
الدنيا في الشكر (ص: 36) (رقم : 101)
وفي "تنبيه
الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين" (ص: 445) للسمرقندي:
وَعَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ _رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى_، قَالَ:
"نِعْمَتَانِ،
إِنْ رَزَقَكَ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهُمَا، فَاحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا،
وَاشْكُرْهُ: اجْتِنَابُكَ مِنْ بَابِ السُّلْطَانِ وَاجْتِنَابُكَ مِنْ بَابِ
الطَّبِيبِ." اهـ
تنبيه
الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 445)
وَعَنْ بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ:
"مَنْ
كَانَ مُسْلِمًا، وَبَدَنُهُ فِي عَافِيَةٍ، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ سَيِّدُ
نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَسَيِّدُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ سَيِّدَ نَعِيمِ
الدُّنْيَا هُوَ الْعَافِيَةُ، وَسَيِّدُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ هُوَ الْإِسْلَامُ."
اهـ
وقال محمود بن
أحمد الغيتابى الحنفى، المعروف بـ"بدر الدين العيني" (المتوفى: 855 هـ) _رحمه
الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (23/ 31):
"إِن
الْإِنْسَان إِذْ لم يعْمل الطَّاعَة فِي زمن صِحَّته فَفِي زمن الْمَرَض
بِالطَّرِيقِ الأولى. وعَلى ذَلِك، حكمُ الْفَرَاغ أَيْضا، فَيبقى بِلَا عمل
خاسراً مغبوناً،
هَذَا وَقد
يكون الْإِنْسَان صَحِيحا، وَلَا يكون متفرغاً لِلْعِبَادَةِ لاشتغاله بِأَسْبَاب
المعاش وَبِالْعَكْسِ.
فَإِذا
اجْتمعَا فِي العَبْد وَقصر فِي نيل الْفَضَائِل فَذَلِك هُوَ الْغبن لَهُ كل
الْغبن، وَكَيف لَا وَالدُّنْيَا هِيَ سوق الأرباح وتجارات الْآخِرَة؟" اهـ
3/ الدنيا
مزرعة الآخرة
وفي "فتح
الباري" لابن حجر (11/ 230):
"وَقَالَ
بن الْجَوْزِيِّ :
"قَدْ
يَكُونُ الْإِنْسَانُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ مُتَفَرِّغًا لِشُغْلِهِ
بِالْمَعَاشِ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا. فَإِذَا
اجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ، فَهُوَ الْمَغْبُونُ.
وَتَمَامُ
ذَلِكَ: أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَفِيهَا
التِّجَارَةُ الَّتِي يَظْهَرُ رِبْحُهَا فِي الْآخِرَةِ. فَمَنِ اسْتَعْمَلَ
فَرَاغَهُ، وَصِحَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَهُوَ الْمَغْبُوطُ.
وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَهُوَ الْمَغْبُونُ،
لِأَنَّ الْفَرَاغَ يَعْقُبُهُ الشُّغْلُ، وَالصِّحَّةُ يَعْقُبُهَا السَّقَمُ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ، إِلَّا الْهَرَمُ - كَمَا قِيلَ - يَسُرُّ الْفَتَى طُولُ
السَّلَامَةِ وَالْبَقَا. فَكَيْفَ تَرَى طُولَ السَّلَامَةِ يَفْعَلُ يَرُدُّ
الْفَتَى بَعْدَ اعْتِدَالٍ وَصِحَّةٍ يَنُوءُ إِذَا رَامَ الْقِيَامَ وَيُحْمَلُ."
اهـ
ففي
"كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/ 437_438) لابن الجوزي :
"اعْلَم
أَنه قد يكون الْإِنْسَان صَحِيحا وَلَا يكون متفرغا لِلْعِبَادَةِ لاشتغاله
بِأَسْبَاب المعاش، وَقد يكون متفرغا من الأشغال، وَلَا يكون صَحِيحا،___
فَإِذا
اجْتمعَا للْعَبد، ثمَّ غلب عَلَيْهِ الكسل عَن نيل الْفَضَائِل، فَذَاك الْغبن!
كَيفَ وَالدُّنْيَا سوقُ الرَّبَاحِ، والعُمْرُ أقصر، والعوائقُ أَكْثَرُ."
اهـ
4/ الصِّحَّةُ
وَالْفَرَاغُ رَأْسُ الْمَالِ
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى: 852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (11/
230):
"وَقَالَ
الطِّيبِيُّ:
"ضَرَبَ
النَّبِيُّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ لِلْمُكَلَّفِ مَثَلًا
بِالتَّاجِرِ الَّذِي لَهُ رَأْسُ مَالٍ، فَهُوَ يَبْتَغِي الرِّبْحَ مَعَ
سَلَامَةِ رَأْسِ الْمَالِ، فَطَرِيقُهُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَتَحَرَّى فِيمَنْ
يُعَامِلُهُ وَيَلْزَمَ الصِّدْقَ وَالْحِذْقَ لِئَلَّا يُغْبَنَ،
فَالصِّحَّةُ
وَالْفَرَاغُ رَأْسُ الْمَالِ،
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَامِلَ اللَّهَ بِالْإِيمَانِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ
وَعَدُوِّ الدِّينِ، لِيَرْبَحَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،
وَقَرِيبٌ
مِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ _تَعَالَى_: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الصف: 10] الْآيَاتِ،
وَعَلَيْهِ
أَنْ يَجْتَنِبَ مُطَاوَعَةَ النَّفْسِ، وَمُعَامَلَةَ الشَّيْطَانِ، لِئَلَّا
يُضَيِّعَ رَأْسَ مَالِهِ مَعَ الرِّبْحِ." اهـ[2]
5/ فيه:
الحث على مجاهدة النفس
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى: 852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري"
(11/ 231):
"فَمَنِ
اسْتَرْسَلَ مَعَ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ الْخَالِدَةِ إِلَى
الرَّاحَةِ، فَتَرَكَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْحُدُودِ وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَى
الطَّاعَةِ، فَقَدْ غُبِنَ.
وَكَذَلِكَ
إِذَا كَانَ فَارِغًا، فَإِنَّ الْمَشْغُولَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَعْذِرَةٌ
بِخِلَافِ الْفَارِغِ، فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ، وَتَقُومُ
عَلَيْهِ الْحُجَّةُ." اهـ
6/
فيه: تنبيهٌ على مقدارِ عظيمِ نعمةِ الله على عباده فى الصحة والكفاية
وقال أبو
الحسن علي بن خلف البكري، المعروف بـ"ابن بطَّال
القرطبي" (المتوفى: 449 هـ) _رحمه الله_ في "شرح صحيح البخاري"
(10/ 146_147):
"قال بعض
العلماء: إنما أراد _صلى الله عليه وسلم_ بقوله: (الصحة والفراغ نعمتان) تنبيهَ
أمتِهِ على مقدارِ عظيمِ نعمةِ الله على عباده فى الصحة والكفاية؛ لأن المرء لا يكون
فارغًا حتى يكون مكيفًا مؤنة العيش فى الدنيا،
فمن أنعم الله
عليه بهما فليحذر أن يغبنهما، ومما يستعان به على دفع
الغبن أن يعلم العبد أن الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم،
وبدأهم بالنعم
الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمنّ عليهم بصحة الأجسام وسلامة العقول، وتضمن
أرزاقهم وضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات وأمرهم أن يعبدوه ويعتبروا بما
ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرفٍ يسيرة،
وجعل مدة
طاعتهم فى الدنيا منقضية بانقضاء___أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا دائمًا فى
جنات لا انقضاء لها مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر،
فمن أنعم
النظر فى هذا كان حريًا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه فى طاعة ربه،
ويشكره على عظيم مواهبه والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كنه تأدية ذلك،
فمن لم يكن
هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه فى سهو ولهو وعجز عن القيام
بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم." اهـ
7/ الصحة
والفراغ نعمتان خير من البلاء ومتاع الدنيا
وفي "الإفصاح
عن معاني الصحاح" (3/ 213) لابن هبيرة :
* وفيه: دليل
على أن الصحة نعمة، فلا ينبغي أن يخْتَارَ عليها البلاء.
*وفيه أيضًا:
دليل على أن الفراغ نعمة. فإذا فتح به، فلا ينبغي أن يختار عليه عمل دنيا،
فإذا أنعم
الله تعالى على عبد من عباده بصحة في بدنه وفراغ في وقته، فلم ينفق هذه الصحة في
هذه الفراغ لله _سبحانه_ فقد غُبِنَ، ومن ذلك أنه إذا خلا في وقت دون وقت،
فينبغي له أن
ينفق ذلك الوقت الفارغ من شغل الدنيا في شغل الآخرة،
ولا ينتظر بعمل الآخرة أن يتفرغ له في كل أوقاته،
ولذلك فإن أَعْوَزَتْهُ
الصحة التامة فلينفق مما آتاه الله منها، ولا يقفل بقية النعمة عنده." اهـ
أخرجه ابن أبي
الدنيا في "الزهد" (ص: 187) (رقم: 428)، وفي "كلام الليالي والأيام"
(ص: 25) (رقم: 26): وَحَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: ثنا
الْمُسَيَّبُ بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: (ابْنَ آدَمَ، الْيَوْمُ ضَيْفُكَ،
فَالضَّيْفُ مُرْتَحِلٌ، يَحْمَدُكَ أَوْ يَذُمُّكَ، وَكَذَلِكَ لَيْلَتُكَ
8/
من لا يعرف قدر هاتين النعمتين، فسوف يندم
وقال الحسين
بن محمود الزَّيْدَانيُّ الكوفي الضَّريرُ الشِّيرازيُّ
الحَنَفيُّ، المشهورُ بـ"المُظْهِري" (المتوفى:
727 هـ) _رحمه الله_ في "المفاتيح في شرح المصابيح" (5/ 273):
"لا
يَعرف قَدْرَ هاتين النعمتين كثيرٌ من الناس؛ يعني: لا يعملون في زمان الصحة
والفراغ الأعمال الصالحة، ولا يهيئون أمر الآخرة، حتى تتبدل الصحة بالمرض،
والفراغُ بالاشتغال، فحينئذ يندمون على تضييع أعمارهم ولا ينفعهم الندم." اهـ
وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031 هـ) _رحمه الله
في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (1/ 426):
"بهما
مَا يتكامل التنعم بِالنعَم. وَمن لَا يعرف قدر النعم بوجدانها، عرف بِوُجُود
فقدانها." اهـ
9/ ومن
ذهل عن تدبير المنزل والمركب، لم يتم سفره
وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031 هـ) _رحمه الله
في "فيض القدير" (2/ 16):
"قال حجة
الإسلام: "الدنيا منزل من منازل السائرين إلى الله تعالى والبدن مركب، ومن
ذهل عن تدبير المنزل والمركب، لم يتم سفره، وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا، لا
يتم أمر التبتل والانقطاع إلى الله الذي هو السلوك." اهـ
حجة الإسلام: هو
أبو حامد الطوسي الغزالي _رحمه الله وغفر له_، لقَّبه بذلك بعض الناس، وإن كان هذا
اللقب لا يتماشى مع حاله، فإن أكثر أوقاته يتوغل فيه في بدع الفلاسفة وعلم الكلام والتصوف.
إلا أن بعض العلماء ذكر أن الغزالي تحول في آخر مراحل حياته إلى مذهب السلف،
ومع الأسف لم يَكْتُبْ في توبته ورجوعه إلى مذهب السلف شيئا كما فعله أبو الحسن الأشعري
في "الإبانة عن أصول الديانة"، وابن عقيل الحنبلي، والله المستعان،
اللهم غفرانك وتوفيقك. نسأل الله العافية والسلامة.
وقال عبد الحميد محمد
بن باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ) _رحمه الله_
في "مجالس التذكير من حديث البشير النذير" (ص:
136):
"إن
كثيرا من الناس يكونون في صحة من أبدانهم، وفراغ من أشغالهم، ولا يعمرون أوقاتهم
الفارغة بطاعة الله تعالى، ولا يستعملون أبدانهم الصحيحة فيها، فتضيع عليهم تلك
الأوقات وتلك الصحة باطلا، فيخسرونهما ولا يستفيدون منهما فيكون ما خسروه منهما
نقصا في حظهم من حياتهم،
وإذ كانت
الحياة هي أغلى شيء عند الإنسان يحافظ عليه، ولا يبذل شيئا منه إلا بحقه، فهؤلاء
الذين نقصوا حظهم في حياتهم هم أعظم المغبونين." اهـ
10/ عُمْر
الإنسان أنفس كنز يملكه
وقال عبد الحميد محمد
بن باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ) _رحمه الله_
في "مجالس التذكير من حديث البشير النذير" (ص: 136_137):
"عُمْر
الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة ثمرة معمورة بعمل مفيد،
فقد أخذ حظه منها وربحها، وكلُّ لحظةٍ تَمُرُّ فارغة فقد غَبِنَ حظه منها وخسرها.
وكذلك بدنه
فهو أنفس آلة عنده، وإنما فائدة الآلة بالعمل، فإذا كانت الآلة، في عمل فهو ربح
وزيادة، وإذا كانت في بطالة فهو في نقص وخسران.
فالرشيد
الرشيد
هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، وتلك الآلة العظيمة، فعمر وقته بالأعمال،
وداوم على استعمال ذاته فيها فربحهما.
والسفيه
السفيه
من أساء التصرف فيهما فأخلى وقته من العمل، وعطل ذاته عن الشغل فخسرها.
ولما كان الإنسان
مضطرا إلى السعي في معاشه، فيشغله ذلك عن وجوه الطاعات من العلم ونوافل الصلاة
والصوم والحج وغيرها، ومعرضا للأمراض فتمنعه منها. ولكنه لا يخلو من حالة يكون
فيها فارغا من الشغل لمعاشه، ومعافى من المرض في بدنه، ذكَّره هذا الحديثُ الشريف
بما عليه في هذه الحالة من___المحافظة عليها، وعمارتها بالطاعات حتى لا يخسرها،
وتنقص من عمره بلا فائدة، فيكون مغبونا فيها." اهـ
وقال عبد الحميد محمد
بن باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ) _رحمه الله_
في "مجالس التذكير من حديث البشير النذير" (ص: 137_138):
"تفريغ
على الحديث:
فإذا عمَّر
الإنسان وقت فراغه من الكد لعيشه، بطاعة من طاعات الله واستعمل بدنه مغتنما فرصةَ
صحتِه فيها، ثم عرض شغل من أشغال عيشه فقطعه عنها، أو طرأ عليه مرض، فمنَعه منها،
ونيتُه المداومة على تلك الطاعة، لولا الشاغل والمانع، فإنه
يكتب له في شغله وفي مرضه ثواب ما كان يعمله في صحته وفراغه.
ومن الدليل
على ذلك: حديث البخاري _رضي الله عنه_ عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري _رضي الله
عنهم_:
سمعت أبا موسى
مرارا يقول:
قال رسول
الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل
مقيما صحيحا، والسفر نوع من الشغل».
تفريغ آخر:
وإذا كان
المؤمن عاملا في طاعة الله تعالى أيام صحته وفراغه ثم مرض فإن له أجرين: أجرا على ما كان يعمل في صحته بدليل ما تقدم، وأجرا على مرضه، لقوله _صلى الله عليه وآله وسلم_:
«مَا يُصِيبُ
الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن حتَّى الشَّوْكَةُ
يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه». رواه البخاري _رضي الله عنه_.
وكذلك إذا شغل
بالسعي على نفسه أو على العيال، فإن له أجرين: أجر ما
شغل عنه، وأجر سعيه على عياله،
وأدلة ثواب
الساعي على عياله كثيرة، منها:
حديث الرجل
الذي رأى الصحابة _رضي الله عنهم_ من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان
في سبيل الله. فقال رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_: «إن خرج___يسعي على ولده
صغارا فهو في سبييل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل
الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو فبي سبيل الله». رواه الطبراني بسند صحيح.
ومثله من شغل
بطاعة عن طاعة، كمن شغل بالرباط عن نافلة الحج مثلا، لأنه إذا كان المشغول بالسفر
المأذون فيه يكتب له ما كان يعمله مقيما، لأن نيته المداومة لولا عأرض السفر-
فالمشغول بالطاعة عن طاعة كان ينوي فعلها لولا عروض الطاعة الأخرى- أحرى وأولى.
وقال العثيمين
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (2/ 66):
"إن
الإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان: الصحة والفراغ بالموت، بل قد تفوته قبل أن
يموت، قد يمرض ويعجز عن القيام بما أوجب الله عليه، وقد يمرض ويكون ضيق الصدر لا
يشرح صدره ويتعب، وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله حتى تفوته كثير من الطاعات.
ولهذا ينبغي
للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله ـ عز وجل ـ بقدر ما
يستطيع، إن كان قارئاً للقرآن، فليكثر من قراءة القرآن،
وإن كان لا
يعرف القراءة، يكثر من ذكر الله عز وجل،
وإذا كان لا
يمكنه؛___يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يبذل لإخوانه كل ما يستطيع من معونة
وإحسان،
فكل هذه خيرات
كثيرة تذهب علينا سدىً، فالإنسان العاقل هو الذي
ينتهز الفرص؛ فرصة الصحة، وفرصة الفراغ." اهـ
وقال العثيمين
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (2/ 67):
"وفي هذا:
دليل على أن نعم الله تتفاوت، وأن بعضها أكثر من بعض، وأكبر نعمة ينعم الله تعالى
بها على العبد: نعمة الإسلام،
ونعمة الإسلام
التي أضل الله عنها كثيراً من الناس، قال الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ
دِيناً) (المائدة: 3) ،
فإذا وجد
الإنسان أن الله قد أنعم عليه بالإسلام وشرح الله صدره له؛ فإن هذه أكبر النعم.
ثم
ثانياً: نعمة العقل، فإن الإنسان إذا رأى مبتلى في عقله لا
يحسن التصرف، وربما يسيء إلى نفسه وإلى أهله؛ حمد الله على هذه النعمة؛ فإنها نعمة
عظيمة.
ثالثاً:
نعمة
الأمن في الأوطان، فإنها من أكبر النعم، ونضرب لكم مثلاً بما سبق عن آبائنا
وأجدادنا من المخاوف العظيمة في هذه البلاد، حتى إننا نسمع أنهم كانوا إذا خرج
الواحد منهم إلى صلاة الفجر؛ لا يخرج إلا مصطحباً سلاحه؛ لأنه يخشى أن يعتدي عليه
أحد، ثم نضرب مثلاً في حرب الخليج التي مضت في العام الماضي؛ كيف كان الناس
خائفين! أصبح الناس يغلقون شبابيكهم بالشمع خوفاً من شيء متوهم أن يرسل عليهم،
وصار الناس في قلق عظيم، فنعمة الأمن لا يشابهها نعمة غير نعمة الإسلام والعقل.
رابعاً:
كذلك
مما أنعم الله به علينا ـ ولا سيما في هذه البلاد ـ رغد___العيش؛
يأتينا من كل مكان،
فنحن في خير
عظيم ولله الحمد؛ البيوت مليئة من الأرزاق، ويقدم من الأرزاق للواحد ما يكفي اثنين
أو ثلاثة أو أكثر، هذه أيضاً من النعم. فعلينا أن نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه
النعم العظيمة، وأن نقوم بطاعة الله حتى يمن علينا بزيادة النعم؛ لأن الله تعالى
يقول: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7) ." اهـ
وفي "أدب
الدنيا والدين" (ص: 55) للماوردي:
"اجْعَلْ
مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك مِنْ صِحَّةِ الْقَرِيحَةِ وَسُرْعَةِ الْخَاطِرِ
مَصْرُوفًا إلَى عِلْمِ مَا يَكُونُ إنْفَاقُ خَاطِرِك فِيهِ مَذْخُورًا، وَكَدُّ
فِكْرِك فِيهِ مَشْكُورًا." اهـ
وقال جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر، المعروف بـ"أبو بكر الجزائري" (المتوفى
1439 هـ) _رحمه الله_ في "عظات وعبر من أحاديث سيد البشر _صلى الله
عليه وسلم_" (ص: 8_9):
"والمهاجرة"،
ويوم حفر الخندق كان يقول: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار
والمهاجرة".
إن العبرة من
هذا الحديث الشريف الصحيح هي:
أن نعلم أن
الله تعالى أنعم علينا بنعم كثيرة وأعظمها نعمة الحياة والإيمان فإن زادنا الصحة
والفراغ فقد تمت نعم الله تعالى علينا ولا يسعنا إلا شكرها، وذلك بحمد الله تعالى
والثناء عليه مع طاعته بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
فإن نحن لم
نحمد الله ولم نشكره فقد غبنا في نعم الله تعال علينا، وهذا لا يرضاه عبد عاقل
أبداً. ومن هنا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن كثير من الناس مؤمنهم وكافرهم
فقد غبنوا نعمة الله تعالى عليهم فلم يكملوا بها ولم يسعدوا عليها؛ إذ أوقات
فراغهم لم يملؤوها بالذكر والعبادة وصحتهم لم يصوموا بها النهار ولم يقوموا بها
الليل، ولم يجاهدوا في سبيل الله ولم يرابطوا، فهم لذلك قد غبنوا في هذين الطائين
الإلهيين عطاء الفراغ وعطاء الصحة، وإن قلت ما الفراغ؟ قلت لك إنه الوقت الذي لا
تحرث فيه ولا تزرع ولا تحصد، ولا تصنع فيه ولا تبني، ولا تبيع ولا تشتري، وأما
الصحة فهي قدرتك___على العمل لسلامة بدنك من علل المرض والهرم - وهو الكبر - ولكي
تنصرف بعض الوقت عن العمل الدنيوي المانع لك عن العمل الأخروي أذكر قول الرسول صلى
الله عليه وسلم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، أي لا عيش يسعد به صاحبه وتدوم
سعادته إلا عيش الجنة دار السلام، وأما عيش الدنيا فإنه مهما طاب وحسن فإنه فان
زائل ذاهب لا محالة، وما كان كذلك فكل عيش، وجوده وعدمه سواء واذكر وردد قول
الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الأخرة، فاغفر
للأنصار والمهاجرة".
واجتهد أن
نكون منهم بحبك لهم واتباعك لما كانوا عليه." اهـ
وقال حمزة بن محمد
بن قاسِمٍ الْمَغْرِبِيُّ (المتوفى 1431 هـ) _رحمه الله_ في "منار القاري شرح
مختصر صحيح البخاري" (5/ 289):
"فقه
الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي:
أولاً:
الترغيب في انتهاز الفرص المواتية من صحة وفراغ، ومال، ومركز، وجاه، والاستفادة
منها فيما يرضي الله تعالى لأن الفرصة قلما تعود إلى صاحبها مرة أخرى، فالعاقل من
ينتهزها، ويغتنمها في طاعة الله، وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال: " لم يتحسر أهل الجنة إلاّ على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى
فيها ".
ثانياً:
قال السيوطي: في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعمتان مغبون فيهما
كثير من الناس " معناه أن الإنسان لا يتفرغ للطاعة إلاّ إذا كان مكفياً صحيح
البدن، فقد يكون مستغنياً، ولا يكون صحيحاً، وقد يكون صحيحاً ولا يكون مستغنياً،
فلا يكون متفرغاً للعلم والعمل لشغله بالكسب، فمن حصل له الأمران: "الصحة
والفراغ" وكسل عن الطاعات فهو المغبون الخاسر. في تجارته." اهـ
وقال محمد بن
أحمد بن علي الدمشقي الصالحي الحنفي، الشهير بـ"ابن
طولون" المتوفى: 953 هـ) _رحمه الله_ في "الطب النبوي" =
"المنهل الروي في الطب النبوي" (ص: 320):
"وينبغي
للمريض أن يسأل الله العافية وللعايد أن يدعو له بها فإن العافية أفضل ما أنعم
الله بها على الإنسان بعد الإسلام، إذ لا يتمكن من حسن تصرفه والقيام بطاعة ربه
إلا بوجودها ولا مثل لها فيشكرها العبد ولا يكفرها." اهـ
وفي "زاد
المعاد في هدي خير العباد" (4/ 196) لابن القيم :
"وَمَنْ
تَأَمَّلَ هَدْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَهُ
أَفْضَلَ هَدْيٍ يُمْكِنُ حِفْظُ الصِّحَّةِ بِهِ، فَإِنَّ حِفْظَهَا مَوْقُوفٌ
عَلَى حُسْنِ تَدْبِيرِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ،
وَالْهَوَاءِ وَالنَّوْمِ، وَالْيَقَظَةِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ،
وَالْمَنْكَحِ وَالِاسْتِفْرَاغِ وَالِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ عَلَى
الْوَجْهِ الْمُعْتَدِلِ الْمُوَافِقِ الْمُلَائِمِ لِلْبَدَنِ وَالْبَلَدِ
وَالسِّنِّ وَالْعَادَةِ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى دَوَامِ الصِّحَّةِ أَوْ
غَلَبَتِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ.
وَلَمَّا
كَانَتِ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ،
وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ، وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ، بَلِ الْعَافِيَةُ الْمُطْلَقَةُ
أَجَلُّ النِّعَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَحَقِيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حَظًّا مِنَ
التَّوْفِيقِ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا عَمَّا يُضَادُّهَا."
اهـ
وقال القاسمي
في "موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين" (ص: 323):
"وَسَبَبُ
التَّأْخِيرِ هُوَ الْأُنْسُ بِالدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَالتَّسْوِيفُ، فَلَا
يَزَالُ يُسَوِّفُ وَيُؤَخِّرُ وَلَا يَخُوضُ فِي شُغُلٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ
بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشُّغُلِ عَشَرَةُ أَشْغَالٍ أُخَرَ،
وَهَكَذَا
عَلَى التَّدَرُّجِ يُؤَخِّرُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَيُفْضِي بِهِ شُغُلٌ إِلَى
شُغُلٍ بَلْ إِلَى أَشْغَالٍ إِلَى أَنْ تَخْطَفَهُ الْمَنِيَّةُ فِي وَقْتٍ لَا
يَحْتَسِبُهُ فَتَطُولُ عِنْدَ ذَلِكَ حَسْرَتُهُ ; وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ
وَصِيَاحُهُمْ مِنْ " سَوْفَ " يَقُولُونَ: " وَاحُزْنَاهُ مِنْ
" سَوْفَ "
وَالْمُسَوِّفُ
الْمِسْكِينُ لَا يَدْرِي أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَى التَّسْوِيفِ الْيَوْمَ
هُوَ مَعَهُ غَدًا، وَإِنَّمَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْمُدَّةِ قُوَّةً وَرُسُوخًا،
وَيَظُنُّ أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَائِضِ فِي الدُّنْيَا فَرَاغٌ
قَطُّ، هَيْهَاتَ فَمَا يَفْرَغُ مِنْهَا إِلَّا مَنِ اطَّرَحَهَا." اهـ
وفي "مفتاح
الأفكار للتأهب لدار القرار" (2/ 85_86) للشيخ عبد الزيز السلمان _رحمه
الله_:
"إن
كثيرًا من الناس يهمل واجب النعم عليه فلا يستقبل النعم بما يجب لها من الشكر ولا___يحاول
استبقاءها بأداء حق الله فيها بل يعرض عن الله وينأى بجانبه ولا يذكر هذه النعمة
من نعم الله على عظمها إلا حين يعدو عليها المرض فيذبل نضرة العافية ويخطو بقوة
الشباب على غير موعد إلى ضعف الشيخوخة.
أما حين ينعم
الإنسان بسلامة أعضائه وقوة بنيته وحين يحس الحيوية تسري في عروقه فهو ينطلق في
شهواته خاضعًا لها، وهو يظن نفسه الآمر الناهي، وخاسرًا بها وهو يحسب نفسه قد ربح
كل شيء.
وتمضي به
أيامه ولياليه وهو يرتع كالحيوان في ملذاته من مأكولات ومشروبات دون تفرقة بين
حلال وحرام ومن غير تمييز بين طيب وخبيث فيسيء إلى نفسه ويبخسها حقها، إذ يضيع
طاقتها على العمل النافع وعلى الطاعة الواجبة في اللهو واللعب.
وبلا شك أن الصحة عرض لا يدوم بل يمر مر السحاب وأن المرض يفقد
الإنسان معظم طاقته على العمل بل ربما فقدها كلها وعجز. فمِنْ السفه والحمق إذاً
أن لا يغتنم الإنسان فرصة الصحة والفراغ من الشواغل للطاعة والعبادة.
وكل إنسان
يعلم أن كل يوم يتقدم به الزمن يقصر عمره ومقدرته على العمل تضعف كلما خطا به
الزمن ومحصوله من الأعمال الصالحة يقل كلما أقعده المرض أو أثقلته السنون.
فالعاقل
اليقظ: يحافظ على وقته أكثر من محافظته على ماله ولا يضيع منه شيئًا
بل يستعمله فيما يقربه إلى الله والدار الآخرة أو ما هو سبب إلى ذلك، فإن فاته شيء
أو نسى شيئًا من أعماله بالليل قضاه بالنهار وبالعكس." اهـ
وصايا
السلف في اغتنام الأوقات في الخير وطاعة الله
المستدرك على
الصحيحين للحاكم (4/ 341) (رقم : 7846) :
عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ :
"
اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ
سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ
قَبْلَ مَوْتِكَ."[3]
وفي غذاء
الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 449) لأبي العون السفاريني :
"وَعَنْ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَا
ابْنَ آدَمَ الْيَوْمُ ضَيْفُك، وَالضَّيْفُ مُرْتَحِلٌ يَحْمَدُك أَوْ يَذُمُّك،
وَكَذَلِكَ لَيْلَتُك." اهـ
غذاء الألباب
في شرح منظومة الآداب (2/ 449_450)
* وَعَنْ
عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
"اعْمَلُوا
لِأَنْفُسِكُمْ رَحِمَكُمْ اللَّهُ فِي هَذَا___اللَّيْلِ وَسَوَادِهِ فَإِنَّ الْمَغْبُونَ
مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ
خَيْرَهُمَا، إنَّمَا جُعِلَا سَبِيلًا لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ،
وَوَبَالًا عَلَى الْآخَرِينَ لِلْغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَأَحْيُوا لِلَّهِ
أَنْفُسَكُمْ بِذِكْرِهِ فَإِنَّمَا تَحْيَا الْقُلُوبُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. كَمْ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذَا اللَّيْلِ قَدْ
اغْتَبَطَ بِقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ حُفْرَتِهِ. وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ فِي هَذَا
اللَّيْلِ قَدْ نَدِمَ عَلَى طُولِ نَوْمِهِ عِنْدَمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ
اللَّهِ لِلْعَابِدِينَ غَدًا. فَاغْتَنِمُوا مَمَرَّ السَّاعَاتِ وَاللَّيَالِي
وَالْأَيَّامِ رَحِمَكُمْ اللَّهُ.
* وَعَنْ
دَاوُد الطَّائِيِّ قَالَ :
"إنَّمَا
اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلُ تَنْزِلُهَا النَّاسُ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً
حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِمْ ذَلِكَ إلَى آخِرِ سَفَرِهِمْ، فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ
تُقَدِّمَ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ زَادًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَافْعَلْ، فَإِنَّ
انْقِطَاعَ السَّفَرِ عَنْ قَرِيبٍ مَا هُوَ، وَالْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ،
فَتَزَوَّدْ لِسَفَرِك وَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مِنْ أَمْرِك فَكَأَنَّك
بِالْأَمْرِ قَدْ بَغَتُّك." اهـ
غذاء الألباب
في شرح منظومة الآداب (2/ 450) :
* وَرَوَى
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ :
«مَا مِنْ
يَوْمٍ إلَّا يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ قَدْ دَخَلْت عَلَيْك الْيَوْمَ وَلَنْ
أَرْجِعَ إلَيْك بَعْدَ الْيَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا تَعْمَلُ فِي، فَإِذَا
انْقَضَى طَوَاهُ ثُمَّ يُخْتَمُ عَلَيْهِ فَلَا يَفُكُّ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ
هُوَ الَّذِي يَفُضُّ ذَلِكَ الْخَاتَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيَقُولُ الْيَوْمُ
حِينَ يَنْقَضِي: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَاحَنِي مِنْ الدُّنْيَا
وَأَهْلِهَا. وَلَا لَيْلَةٌ تَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ إلَّا قَالَتْ كَذَلِكَ» .
* وَبِإِسْنَادِهِ
عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ:
"كَانَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: إنَّ هَذَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
خِزَانَتَانِ فَانْظُرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِيهِمَا. وَكَانَ يَقُولُ: اعْمَلُوا
اللَّيْلَ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَاعْمَلُوا النَّهَارَ لِمَا خُلِقَ لَهُ." اهـ
غذاء الألباب
في شرح منظومة الآداب (2/ 450_451)
وَقَالَ
الْحَسَنُ: لَيْسَ يَوْمٌ يَأْتِي مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إلَّا يَتَكَلَّمُ
يَقُولُ: يَا أَيُّهَا___النَّاسُ إنِّي يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَإِنِّي عَلَى مَا
يُعْمَلُ فِي شَهِيدٌ، وَإِنِّي لَوْ قَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ
إلَيْكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَإِذَا عَرَفْت
هَذَا فَإِيَّاكَ وَالْغَبَنَ وَالتَّمَادِي فِي الْكَسَلِ وَهَوَى النَّفْسِ
(بَلْ اجْهَدْ) فِي فِكَاكِهَا وَخَلَاصِهَا مِنْ قُيُودِ الْأَقْفَاصِ.[4]
موعظة
المؤمنين من إحياء علوم الدين (ص: 322)
وَكَانَ
" الحسن " يَقُولُ فِي مَوْعِظَتِهِ: " الْمُبَادِرَةَ
الْمُبَادِرَةَ فَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْفَاسُ لَوْ حُبِسَتِ انْقَطَعَتْ عَنْكُمْ
أَعْمَالُكُمُ الَّتِي تَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. رَحِمَ
اللَّهُ امْرَءًا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَبَكَى عَلَى عَدَدِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ
قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مَرْيَمَ: 84] يَعْنِي
الْأَنْفَاسَ، آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ
أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُكَ فِي قَبْرِكَ ".
[1] أخرجه البخاري في "صحيحه" (8/ 89) (رقم: 6416)،
والترمذي في "سننه" – ت. شاكر (4/ 567) (رقم: 2333)
[2] وفي شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3271_3272) :
"إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثلا للمكلف بالتاجر الذي له رأس مال، وهو يبيع
ويشتري ويطلب من تجارته سلامة رأس المال والربح، فالواجب عليه أن يتحرى فيها من
يعامله، ويكون صدوقاً غير مخادع لئلا يغبنه في معاملته. فنعمتا الفراغ والصحة رأس
مال المكلف، فينبغي له أن يعامل الله تعالى بالإيمان بالله ورسوله، والمجاهدة مع
النفس وأعداء الدين؛ لئلا يغبن ويربح في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {هل
أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله
بأموالكم وأنفسكم} ويجتنب معاملة الشيطان لشلا يغبن فيضيع رأس ماله مع الربح.____
فالكثير
في الحديث في مقابلة القليل في قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} والشكر كما
علمت في إزاء النعمة. وشكر العباد لله تعالى عبارة عن آداب الجوارح في طاعته وتحرى
مراضيه بقلبه. والنداء على التحميد بلسانه وبناء المبالغة في الشكور ينبئ عن هذه
الأقسام. والله أعلم." اهـ
[3] وأخرجه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل (ص: 89) (رقم : 111) ومن
طريقه البيهقي في شعب الإيمان (12/ 476) (رقم : 9767)، وصححه
الألباني صحيح الترغيب والترهيب (3/ 311) (رقم : 3355)
[4] وفي غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 451) :
"قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ : "الْإِنْسَانُ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا
يَسْعَى فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفِي
لِسَانِهِ وَفِي جَوَارِحِهِ كُلِّهَا." اهـ
ثم
قال السفاريني معلقا على قول ابن الجوزي في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/
451) :
"فَعَلَى
الْعَاقِلِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى مَا فِيهِ خَلَاصُ نَفْسِهِ مِنْ الْهَلَاكِ،
وَيَفُكُّهَا مِنْ الْقُيُودِ وَالشِّرَاكِ، وَلَا يَرْكَنُ إلَى الدُّنْيَا
وَلَذَّاتِهَا، وَلَا يَسْكُنُ إلَى تَخَيُّلَاتِهَا وَتَمْوِيهَاتِهَا، فَمَا
هِيَ إلَّا سُمُّ الْأَفَاعِي، وَأَهْلُهَا مَا بَيْنَ مَنْعِيٍّ وَنَاعِي."
اهـ
Komentar
Posting Komentar