شرح الحديث 54 - باب المسح على الخفين - من بلوغ المرام

 

54 - وَعَنْ عَلِيٍّ _رضي الله عنه_:

أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ، لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ.

وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ."

أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

 

ترجمة علي بن أبي طالب:

 

وفي "الأعلام" للزركلي (4/ 295):

علي بن أبي طالِب (23 ق هـ - 40 هـ = 600 - 661 م)

علي بن أبي طالب (2) بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، أبو الحسن: أمير المؤمنين، رابع الخلفاء الراشيدون، وأحد العشرة المبشرين، وابن عم النبي وصهره، وأحد الشجعان الأبطال، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، وأول الناس___إسلاما بعد خديجة. ولد بمكة، وربي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه.

وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد. ولما آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه قال له: أنت أخي، وولي الخلافة بعد مقتل عثمان ابن عفان (سنة 35 هـ فقام بعض أكابر الصحابة يطلبون القبض على قتلة عثمان وقتلهم وتوقي عليّ الفتنة، فتريث، فغضبت عائشة وقام معها جمع كبير، في مقدمتهم طلحة والزبير، وقاتلوا عليا، فكانت وقعة الجمل (سنة 36 هـ وظفر عليّ بعد أن بلغت قتلى الفريقين عشرة آلاف، ثم كانت وقعة صفين (سنة 37 هـ وخلاصة خبرها أن عليا عزل معاوية من ولاية الشام، يوم ولي الخلافة، فعصاه معاوية، فاقتتلا مئة وعشرة أيام، قتل فيها من الفريقين سبعون ألفا، وانتهت بتحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاصي فاتفقا سرا على خلع عليّ ومعاوية، وأعلن أبو موسى ذلك، وخالفه عمرو فأقر معاوية، فافترق المسلمون ثلاثة أقسام: الأول بايع لمعاوية وهم أهل الشام، والثاني حافظ على بيعته لعليّ وهم أهل الكوفة، والثالث اعتزلهما ونقم على على رضاه بالتحكيم، وكانت وقعة النهروان (سنة 38 هـ بين علي وأباة التحكيم، وكانوا قد كفروا عليا ودعوه إلى التوبة واجتمعوا جمهرة، فقاتلهم فقتلوا كلهم وكانوا ألفا وثمانمائة، فيهم جماعة من خيار الصحابة، وأقام عليّ بالكوفة (دار خلافته) إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي غيلة في مؤامرة 17 رمضان المشهورة، واختلف في مكان قبره." اهـ

 

نص الحديث وشرحه:

 

وَعَنْ عَلِيٍّ _رضي الله عنه_:

أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ، لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ.

وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ."

أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

 

وفي رواية للنسائي في "السنن الكبرى" (1/ 120):

"وَقَالَ [عبد خير]: «لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يَغْسِلُ ظُهُورَ قَدَمَيْهِ، لَظَنَنْتُ أَنَّ بُطُونَهُمَا أَحَقُّ»

 

وفي رواية لأحمد في "مسنده" - عالم الكتب (1/ 124):

"عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:

(كُنْتُ أَرَى أَنَّ بَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ أَحَقُّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا ، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ ظَاهِرَهُمَا).

 

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/ 479):

(وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ)،

مُرَادُهُ بِهِ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِ، وَإِلَّا لَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْأَسْفَلِ لِشُمُولِ الظَّاهِرِ لَهُ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ. . . إِلَخْ، صَرِيحٌ فِي امْتِنَاعِ الْأَسْفَلِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِظَاهِرِ خُفَّيْهِ أَعْلَى ظَاهِرِهِمَا." اهـ

 

تخريج الحديث:

 

سنن أبي داود (1/ 42) (رقم: 162)، مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/ 19) (رقم: 57)، مسند الحميدي (1/ 175) (رقم: 47)، الطهور للقاسم بن سلام (ص: 365) (رقم: 356)، مصنف ابن أبي شيبة (1/ 165) (رقم: 1895)، مسند أحمد - عالم الكتب (1/ 95 و 1/ 114 و 1/ 116 و 1/ 124 و 1/ 148) (رقم: 737 و 917_918 و 943 و 1013_1015 و 1264)،

السنن الكبرى للنسائي (1/ 120) (رقم: 118_119)، مسند البزار = البحر الزخار (3/ 36) (رقم: 789)، سنن الدارقطني (1/ 378) (رقم: 783)، السنن الكبرى للبيهقي (1/ 436) (رقم: 1387)

 

والحديث صحيح: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 140) (103)، و"تخريج مشكاة المصابيح" (1/ 163) (رقم: 525)

 

وقال الأرنؤوط في "تخريج مسند أحمد" – ط. الرسالة (2/ 139) (رقم: 737):

"حديث صحيح بمجموع طرقه." اهـ

 

من فوائد الحديث:

 

وقال عبيد الله الرحمنِيُّ _رحمه الله_ في "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/ 221):

"واعلم أن العقل الكامل تابع للشرع، لأنه عاجز عن إدراك الْحِكَمِ الإلهيةِ، فعليه التعبد المحض بمقتضى العبودية،

وما ضل من ضل من الكفرة، والحكماء، والمبتدعة وأهل الأهواء إلا بمتابعة العقل، وترك موافقة النقل.

والحديث نص على المسح المشروع، هو مسح ظاهر الخف، أي: أعلاه دون باطنه أي: أسفله." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 480):

"فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ تَابِعٌ لِلشَّرْعِ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ، فَعَلَيْهِ التَّعَبُّدُ الْمَحْضُ بِمُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ،

وَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْمُبْتَدَعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الْعَقْلِ، وَتَرْكِ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ،

وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا:

(لَوْ قُلْتُ بِالرَّأْيِ لَأَوْجَبْتُ الْغُسْلَ بِالْبَوْلِ، أَيْ: لِأَنَّهُ نَجِسٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْوُضُوءُ بِالْمَنِيِّ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَأَعْطَيْتُ الذَّكَرَ فِي الْإِرْثِ نِصْفَ الْأُنْثَى، لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْهُ.

هَذَا وَقَالَ فِي النَّوَوِيَّةِ نَقْلًا عَنِ الْمَبْسُوطِ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ: (لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ مَسْحُ بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ)، لِأَنَّ بَاطِنَهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَلَوُّثٍ عَادَةً، فَيُصِيبُ يَدَهُ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ:

(وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِنِ عِنْدَهُمْ مَحَلُّ الْوَطْءِ، لَا مَا يُلَاقِي الْبَشَرَةَ، لَكِنْ بِتَقْدِيرِهِ لَا يَظْهَرُ أَوْلَوِيَّةُ مَسْحِ بَاطِنِهِ وَلَوْ كَانَ بِالرَّأْيِ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ الْأَسْفَلُ هُوَ الْمُعَيَّنُ الَّذِي قَالُوهُ، فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ عَلِيٍّ السَّابِقِ،

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ:

وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَسْحِ هُوَ الطَّهَارَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَسْفَلَ أَحْوَجُ إِلَى التَّطْهِيرِ، فَإِنَّهُ أُجْمِعَ فِيهِ الْحَدَثُ وَالْخَبَثُ،

وَفِي كَلَامِ عَلِيٍّ: إِيمَاءٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الرِّجْلِ، لَكَانَ فِي مُقْتَضَى الرَّأْيِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى، لَا عَلَى الْأَسْفَلِ، فَتَأَمَّلْ." اهـ

 

البدر التمام شرح بلوغ المرام (1/ 262)

والحديث يدل على أن شرعية مسح الخف ليست من العمل بالرأي والقياس، وإنما هي توقيفية، لا تظهر لها مناسبة إلا مجرد التخفيف والتيسير فيوقف منه على ما شرع، وقد شرع المسح على ظاهر الخفين

 

[تعليق]:

وفي "الآداب الشرعية والمنح المرعية" (2/ 65) لابن مفلح:

"وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:

(إنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ تَرَكْتُمْ الْآثَارَ وَأَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ)،

وَقَالَ النَّخَعِيُّ: (إنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُدَّخَرْ عَنْهُمْ شَيْءٌ خُبِّئَ لَكُمْ لِفَضْلٍ عِنْدَكُمْ)،

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: (لَا تُجَالِسْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ)،

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: (إنَّمَا الْعِلْمُ كُلُّهُ بِالْآثَارِ)،

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: (عَلَيْكَ بِالْأَثَرِ، وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهُ بِالْقَوْلِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْجَلِي، وَأَنْتَ فِيهِ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)،

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: (إذَا بَلَغَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَدِيثٌ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُبَلِّغًا عَنْ اللَّهِ _عَزَّ وَجَلَّ_)." اهـ

 

سبل السلام (1/ 83)

وَالْحَدِيثُ فِيهِ إبَانَةٌ لِمَحَلِّ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنَّهُ ظَاهِرُهُمَا لَا غَيْرُ وَلَا يُمْسَحُ أَسْفَلُهُمَا.

 

الاستذكار (1/ 227):

وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَشْهَبَ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِالْمَسْحِ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ

وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ ظَاهِرُ الْخُفِّ فِي حُكْمِ الْخُفِّ وَبَاطِنُهُ فِي حُكْمِ النَّعْلِ وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي النَّعْلَيْنِ يَلْبَسُهَا وَلَا فِيمَا لَهُ أَسْفَلُ وَلَا ظَهْرَ لَهُ مِنَ الْخُفِّ

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 262_264):

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - وجوبُ كون مسح الخف على أعلى الخف فقطْ، فلا يجزىء مسح غيره، ولا يشرع مسح غيره معه، سواء الأسفل أو الجوانب.

2 - إنَّ الدِّينَ مبناه على النَّقْلِ عن الله تعالى، أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس الرأي هو المُحْكَّمَ فيه، فالواجبُ الاتباعُ، لا الابتداع.

3 - الذي يتبادر للذِّهْن هو أنَّ الأولى بالمسح هو أسفل الخف، لا أعلاه؛ لأنَّ___الأسفل هو الذي يباشر الأرض، وربمَّا أصابته النجاسة، فكان أولى بالإزالة، ولكن الواجب هو تقديمُ النَّقل الصحيحِ على الرأي؛ فإنَّ الذي شرع ذلك هو أعلم بالمصالح. وليس معنى هذا أنَّ الشرع لا يعبأ بالعقل ولا يعتبره؛ فإنَّ تشريف العقل في القرآن الكريم، وتوجيه مواهبهِ ومخاطبته، هي أكثر وأكبر من أن يستشهد بها؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} [يس: 68]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)} [الروم: 24]، وقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، فالعقل نعمةٌ كُبرى أَنعم الله بها على الإنسان. وإنَّما معناه: أنَّ العقل غير مستقلٍّ بالتَّشريع، فهو يسلِّم ويتلقَّى شرع الله تعالى بنفسٍ راضيةٍ، ويحاول فهم أسرار الله فيها، فإنْ أدرك؛ فذاك من نعمة الله عليه؛ وإلاَّ سلك سبيل الذين قالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].

4 - العقل السليم يوافق النقل الصحيح، فالشريعة التي أنزلها الله تعالى لا تقصد إلاَّ نفس الغرض، الذي خُلِقَ العقل من أجله، حينما يكون العقل سليمًا صحيحًا لم يغلبه الهَوَى والشهوات، ولم يمسَّه الضعفُ والخِفَّة. على أنَّه من المعلوم أنَّ العقل لا يكون معيارًا على الشريعة، بل الشريعة هي التي تكون مقياسًا لنقد العقول، فإذا كان هناك عقلٌ يقبل أحكام الشرع، عُلِمَ أنَّه عقلٌ سليمٌ بريءٌ من العلاَّت، وإذا أبى قبولها، علم أنَّه مريض وعليل.

5 - وجوب الخضوع والتسليم، لأوامر الله تعالى، وأوامر رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو غايةُ العبادة، وهو كمالُ الانقياد والتسليم.

6 - لعلَّ -والله أعلم- مِنْ حكمة هذا الحكم، أنَّ الغَسْلَ يُتْلَفُ الخف، فاكتفي بالمسح تيسيرًا وتسهيلًا، وحفظًا لمالية الخف، والمسح ليس غسلًا يزيل النجاسة وينقِّي الخف، وما دام أنَّ المسح لن يَزِيلَ الأذى العالق بأسفل الخف، بل إنْ مسحه بالماء يسبِّب حمله للنجاسة، جعل المسح أعلاه ليزيل___ما علق به من غبار؛ لأنَّ ظاهر الخف هو الذي يُرَى، والأفضل أنْ يكون المصلِّي في غاية النظافة، والله أعلم.

7 - مسح الخف في حديث المغيرة مجمَلٌ، وهذا الحديث بيَّن صفته وكيفيته." اهـ

 

وقال العثيمين _رحمه الله_ في "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" – ط. المكتبة الإسلامية (1/ 225_226):

"من فوائد حديث علي رضي الله عنه ما ذكرناه الآن: أن الدين ليس بالرأي الذي هو بادي الرأي.

ومن فوائده أيضا: إسناد الأحكام الشرعية إلى من له التشريع وهو من الخلق من؟ الرسول - عليه الصلاة والسلام-؛ ولهذا قال: "وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " إلخ.

ومن فوائد هذا الحديث: أن المسح على الظاهر ليس على الباطن، فمن مسح على الباطن فهو من المتعمقين والمتنطعين والمبتدعين أيضا.

ومن فوائد الحديث: من قوله: "على ظاهر الخفين" أن أدنى مسح كاف؛ لأنه لم يقل: مسح___بظاهر الخفين حتى نقول: إنه يجب استيعاب ظاهر الخف كقوله تعالى: {وامسحوا برءوسكن وأرجلكم} حيث قلنا: إن الباء في قوله: {برءوسكم} للاستيعاب، فيجب أن يكون مسح الرأس في الوضوء شاملا لجميع الرأس، لكن هنا قال "علي": فيكفي أدنى مسحة، ولكن هذه المسألة فيها خلاف والمذهب الوسط فيها ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أن يكفي مسح أكثر الظاهر فلو أمر يده على ظاهر الخف من أصابعه إلى ساقه كفى، ولا يمسح العقب والأسفل، بل من أطراف الأصابع إلى أن يصل إلى الساق.

ثم هنا يقول: "على ظاهر خفيه"، ولم يقل: هل بدأ باليمين أو بدأ بالشمال أو مسح عليهما جميعا باليدين؟ أما كونه بدأ بالشمال فهذا غير وارد؛ لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله.

الوارد هل مسحهما جميعا باليدين أو بدأ باليمنى؟ هذا محل نظر، فمن العلماء من قال: يمسحها جميعا باليدين؛ لأن هذا ظاهر الحديث "مسح عليهما"، ولم يذكر أنه بدأ باليمنى؛ فعلى هذا يكون المسح عليهما مرة واحدة باليدين اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

ومنهم من قال: إن الصحابي أراد أن يبين وقوع المسألة بقطع النظر عن كونه بدأ باليمين أو بدأ بالشمال، ونحن نقول: إن المسح فرع عن الغسل، والغسل يبدأ فيه باليمين، وما دام الأمر مترددا بين هذا وهذا فإن العلماء بعضهم قال بهذا؛ وبعضهم قال بهذا؛ يعني بعضهم قال: يمسحهما جميعا، وبعضهم قال: يبدأ باليمين، والأمر عندي في هذا واسع، المهم أن يمسح عليهما.

ومن فوائد هذا الحديث: الرد على الرافضة؛ لأنهم يرون علي بن أبي طالب إمام الأئمة، والأئمة عندهم معصومون من الخطأ وهم لا يرون المسح على الخفين، وعلي رضي الله عنه أحد الصحابة الذين رووا أحاديث المسح، وهو خليفة من خلفاء المسلمين ومع ذلك لا يقبلون هذا، مما يدل على أن القوم إنما يتبعون أهواءهم لا يتبعون الحق، قال ابن كثير: في غالب ظني إنهم خالفوا الحق في تطهير الرجل من وجوه ثلاثة:

أولا: أنهم قالوا: يجوز مسح الرجل المكشوفة بدلا من غسلها.

وثانيا: أنهم جعلوا الكعبين هما العظمان الناتئان على ظهر القدم، فيكون التطهير في نصف القدم فقط.

وثالثا: أنهم منعوا من مسح الخفين، وكل هذا ثابت كما مر عليكم ويمر إن شاء الله.

 

شرح سنن أبي داود للعباد (28/ 5، بترقيم الشاملة آليا)

وهذا الأثر العظيم الذي يدل على الاتباع، وعلى أن الإنسان يتبع السنة ولا يحكم عقله، ولا يجعل لعقله مجالاً في الاعتراض على الأحكام الشرعية، بل الواجب هو اتهام العقول، والموافقة للنقول، لا أن يحكم العقل ويتهم النقل.

وطريقة أهل السنة والجماعة أنهم يحكمون النقل، والعقل السليم لا يعارض النقل الصحيح، فأهل السنة هذا منهجهم وهذه طريقتهم، أنهم يعولون على النصوص، وأما العقول عندهم فتابعة للنصوص، كما قال بعض أهل العلم: إن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، مهمته أنه يأخذ بالفتوى، فإذا أفتاه العالم المجتهد يأخذ بفتواه.

فالإنسان عليه أن يتبع الدليل ولا يعول على العقل ويتهم النقل؛ لأن العقول متفاوتة وليست على حد سواء، وعقل هذا يخالف ما في عقل هذا، ورأي هذا يخالف رأي هذا، بل إن الإنسان يكون بين وقت وآخر يختلف رأيه، فقد يرى رأياً يعجبه، ثم يرى بعد ذلك أن هذا الرأي الذي أعجبه يتعجب من نفسه كيف رآه فيما مضى! وذلك أنه تبين له أن غيره أولى منه، وهذا هو الذي حصل للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يوم الحديبية لما أريد إبرام العقد مع كفار قريش، وكان الذي يبرمه من جانب الكفار سهيل بن عمرو الذي أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه، وكان من الشروط: أن من جاء من المسلمين إلى الكفار فإنه لا يرد إليهم.

يعني: من ارتد وذهب إلى الكفار فإنه لا يرد إلى المسلمين، ومن جاء من الكفار مسلماً وأراد أن يلحق بالمسلمين فإنه يرد إليهم.

فبعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم -ومنهم عمر ومنهم سهل بن حنيف - تأثروا وتألموا وقالوا: يا رسول الله! كيف نعطى الدنية في ديننا؟! يعني: كيف أن من ذهب منا لا يرجع، ومن جاء منهم يرجع عليهم؟ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رضي بذلك وقبل به، فتبين لهم أن هذا الذي رضي به الرسول أن فيه غضاضة على المسلمين.

أي: هذا الشرط الذي فيه أن من جاء من الكفار رجع إليهم، ومن جاء من المسلمين لا يرجع عليهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رضي بهذا الشرط؛ وذلك أن من ذهب منهم كافراً أبعده الله، ومن جاء من أولئك مسلماً ولم يقبله المسلمون سيجعل الله له فرجاً، ولما حصل أن الذين أسلموا وأرادوا أن يلحقوا بالمسلمين لم يقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءً على الشرط، وكان منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فقد كان مسلماً وكانوا قد قيدوه بالحديد حتى لا يلحق بالمسلمين، وفي أثناء العقد انطلق بحديده وجاء يجره، فلما وصل إليهم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يستثنى هذا.

يعني: هذا يستثنى من الشرط الذي فيه أن من جاء لا يرد، فقالوا: لا، بل هذا لابد أن يرجع، فرجع وزاد تأثر الصحابة أيضاً عندما رأوا هذا الرجل الذي يجر حديده وهو مسلم وقد جاء يريد أن يلحق بالمسلمين يرد إلى الكفار، وكان أبوه هو الذي وقع العقد، وهو الذي طلب أن يرد، ولما لم يوافق على استثنائه زاد تألمهم وتأثرهم، ثم ماذا كانت النتيجة؟ لما رأى المسلمون الذين أسلموا ولا يريدون أن يبقوا مع الكفار في مكة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبلهم بناءً على الشرط ما كان منهم إلا أن ذهبوا واجتمعوا على ساحل البحر، وكلما مرت قافلة من القوافل التي تأتي من الشام لكفار قريش اعترضوها، فقريش نفسها تألمت وتأثرت، وطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم حتى يسلموا من اعتراضهم لعيرهم؛ فكان في ذلك مصلحة، وهذا الذي رضي به الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الله لهم فرجاً، فالكفار رجعوا عن شرطهم وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم، فتبين للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أن الرأي الذي رأوه لم يكن على الصواب، فكان سهل بن حنيف رضي الله عنه في صفين لما كان الناس في صفين، وكانت المعركة دائرة بين أهل العراق وأهل الشام، فأهل الشام أرادوا التحكيم وقالوا: توقف الحرب ويُرجع إلى التحكيم، فيختار هؤلاء أناساً وهؤلاء أناساً، ويلتقون وينظرون في الخلاف الذي حصل بين أهل الشام وأهل العراق، فبعض الصحابة -ومنهم سهل بن حنيف - رضي وأراد أن تنتهي الحرب، وكان سهل مع أصحاب علي رضي الله عنه، ولما رأى أن بعض الناس عندهم رغبة في المواصلة، وألا توقف الحرب صار ينصحهم ويقول: (يا أيها الناس! اتهموا الرأي في الدين)، يعني: أن هذا الذي فيه إيقاف الحرب فيه مصلحة، والرأي الذي رأيتموه اتهموه، ثم ذكر قصته يوم أبي جندل وما حصل لهم يوم عقد الصلح، وأنهم رأوا رأياً كان الخير في خلافه.

الحاصل: أن الإنسان نفسه يرى في وقت رأياً وبعد ذلك يرى رأياً آخر ويتعجب من نفسه كيف رأى ذلك الرأي! لأنه رأى المصلحة في الأخير لا في الأول، وإذا كان الأمر كذلك فالشرع الذي هو وحي الله هو الذي يجب أن يتمسك به، والعقول تتبعه وترجع إليه، ولا تتهم النقول ويعول على العقول، فطريقة أهل السنة والجماعة هي اتباع النقول واتهام العقول إذا خالفت النقول، والعقل السليم لا يخالف النقل الصحيح، ولـ شيخ الإسلام كتاب كبير واسع اسمه (درء تعارض العقل والنقل)، يعني: أنه لا يختلف العقل والنقل، بل العقل السليم يتفق مع النقل الصحيح، ولهذا العلماء عندما يأتون في بعض مسائل الفقه ويذكرون الأدلة يقولون: هذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول يعني: أن العقل يتفق مع النقل.

بل أهل البدع والأهواء على العكس من أهل السنة والجماعة؛ إذ يعولون على العقول ويتهمون النقول، وإذا جاء النقل مخالفاً لمعقولاتهم إن كان آحاداً قالوا: هذا آحاد، والآحاد لا يحتجون بها في العقيدة، وإن كان متواتراً أو في القرآن قالوا: هذا قطعي الثبوت ظني الدلالة.

يعني: فلا يؤخذ به، ولكن يرد عليهم هذا الأثر الذي جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفيه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظاهر الخف)، يعني: أنه لا بد من اتباع النقول، ولا يلتفت إلى العقول إذا رأت ما يخالف النقول، أو إذا انقدح فيها ما يخالف النقول، فالمعول عليه هو النقل وليس المعول عليه العقل، وهذا هو الفرق بين أهل السنة وأهل الأهواء، فأهل السنة يعولون على النقول، ويرون أن النقل الصحيح لا يعارضه العقل السليم، وأما أهل البدع فإنهم يعولون على معقولاتهم، والنقول التي لا تتفق مع معقولاتهم يتهمونها ويدفعونها من أصلها، فإن كان النقل آحاداً قالوا: لا يحتج في العقائد بالأحاديث الآحاد، وهذا خلاف الحق، بل يحتج بالنصوص كلها آحادها ومتواترها، وإن كان قطعي الثبوت كالقرآن ومتواتر السنة دفعوه من حيث الدلالة وقالوا: هو قطعي الثبوت لكنه ظني الدلالة، ولهذا يقول بعض المؤلفين في العقائد المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة وهي عقيدة الأشاعرة الذين يسمون أنفسهم أهل السنة يقول في كتاب اسمه (إضاءة الدجنة في بيان عقيدة أهل السنة).

وكل نص أوهم التشبيه أوله أو فوضه ورم تنزيها والتأويل هو طريقة المتأخرين، والتفويض هو طريقة المتقدمين، وقد سبق أن ذكرت أن ابن عبد البر رحمة الله عليه ذكر في كتابه التمهيد أن الذين يؤولون النصوص ويعطلونها يصفون المثبتة لها بأنهم مشبهة؛ لأنهم لا يتصورون إثباتاً إلا وفقاً لما يشاهدونه في المخلوقات، فيقول ابن عبد البر رحمة الله عليه: إن الذين يعطلون الصفات يصفون المثبتين لها بأنهم مشبهة؛ لأنهم لا يتصورون الإثبات إلا مع التشبيه، وليس الأمر كذلك، بل هناك إثبات مع تشبيه، وهو الباطل، وإثبات مع تنزيه، وهو الحق الذي يطابقه قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فأثبت السمع والبصر ونفى المشابهة.

إذاً: هناك إثبات وتنزيه ليس إثباتاً مع تشبيه، فأهل السنة يثبتون الصفات ولا يعطلونها، ومع إثباتهم لا يشبهون بل ينزهون الله عز وجل ويقولون: إن صفاته تليق بجلاله وكماله ولا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين، والله تعالى بصفاته لا يشبه المخلوقين، والمخلوقون بصفاتهم لا يشبهون الله عز وجل، وصفات الباري تليق بكماله وجلاله، وصفات المخلوق تليق بضعفه وافتقاره.

ثم إن ابن عبد البر بعد أن حكى كلمة هؤلاء قال: وهم -أي: المعطلة- عند من أقر بالصفات وأثبتها يعتبرون قد نفوا المعبود.

قال الذهبي معلقاً على هذه الكلمة الأخيرة لـ ابن عبد البر: قلت: وصدق والله! فإن الجهمية مثلهم -أي: الذين ينفون الصفات- كما قال حماد بن زيد -وهو من طبقة شيوخ أصحاب الكتب الستة-: إن جماعة قالوا: في دارنا نخلة، فقيل لهم: ألها خوص؟ قالوا: لا، قيل لهم: ألها ساق؟ قالوا: لا، قيل: ألها عسب؟ قالوا: لا، وكل ما ذكر لهم شيء من صفات النخل نفوه عن هذه النخلة، فقيل لهم: إذاً: ليس في داركم نخلة.

فهذا شأن المعطل؛ فإنه يقول: الله ليس بسميع ولا بصير ولا ولا ولا وكل شيء ينفيه عن الله، إذاً: لا وجود لله عز وجل؛ لأنه لا يتصور وجود ذات مجردة عن جميع النص." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

الحديث 12 من رياض الصالحين