شرح الحديث 51 - باب الوضوء- بلوغ المرام

 

51 - وَعَنْ أَنَسٍ _رضي الله عنه_ قَالَ:

"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

 

ترجمة أنس بن مالك الأنصاري _رضي الله عنه_:

 

وقال الزِرِكْلِيُّ _رحمه الله_ في "الأعلام" (2/ 24_25):

"أَنَس بن مالِك (10 ق هـ - 93 هـ = 612 - 712 م):

أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم النجاري الخزرجي الأنصاري، أبو ثمامة، أو أبو حمزة:___صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخادمه.

روى عنه رجال الحديث 2286 حديثا. مولده بالمدينة وأسلم صغيرا وخدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض.

ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى البصرة، فمات فيها. وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة." اهـ

 

وفي "معجم الصحابة" للبغوي (1/ 43):

"وأمه: أم سليم بنت ملحان. وقال علي بن المديني: (إنها مليكة بنت ملحان، ولقبها: الرُّمَيْصَاءُ)." اهـ

 

و قال جابر الجعفي، عن خيثمة البصري، عن أنس بن مالك: "كنانى رسول الله

_صلى الله عليه وسلم_، ببقلة كنت أجتنيها."  

 

وقال الزهري، عن أنس بن مالك: "قدم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ المدينة، وأنا ابن عشر سنين، وتوفى وأنا ابن عشرين سنة، وكُنَّ أمهاتِي يحثثنني على خِدْمَتِهِ.

 

وفي "صحيح البخاري" (8/ 73):

عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَسٌ خَادِمُكَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ» خ م

 

وقال علي بن زيد بن جدعان[1]، عن سعيد بن المسيب: قال أنس:

قدم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ المدينة، وأنا ابن ثماني سنين، فذهبتْ بِيْ أُمِّيْ إليه، فقالت: "يا رسول الله، إن رجال الأنصار، و نساءهم قد أَتْحَفُوْكَ غيرِي، وإنيْ لَمْ أَجِدْ ما أُتْحِفُكَ بِهِ، إلا ابنيْ هذا، فاقبله مني، يخدمك ما بدا لك ، قال : فخدمت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عشر سنين، لم يضربني ضربة، ولم يسبني، ولم يعبس فى وجهي."

 

عن أنس بن مالك:

"جاءت بي أم سليم إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، قد أزرتني بنصف خمارها، ورَدَّتْنِىْ بِبِعْضِهِ. فقالت: "يا رسول الله، هذا أُنَيْسٌ ابنيْ، أتيتك به يَخْدُمُكَ، فادعُ اللهَ له، فقال: " اللهم أكثر ماله وولده." قال أنس: "فوالله، إنَّ مالِيْ لَكثيرٌ، وإنَّ ولدِيْ، وولد ولدى يتعادون على نحو من مئة اليوم."

 

عن أنس: "دعا لى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، فقال : (اللهم أَكْثِرْ مالَهُ ووَلَدَهُ، وأَطِلْ حَيَاتَهُ)، فأكثر الله مالي، حتى إن ليْ كَرَمًا يُحْمَلُ فى السَّنَةِ مرَّتَيْنِ، ووَلَدٌ لصلْبِيْ مِئَةٌ وسِتَّةٌ أولاد."

 

قال : و ذكر أن ابنته الكبرى أمينة . أخبرته : أنه دفه من صلبه إلى مقدم الحجاج نيف على عشرين و مئة .

 

عن أنس ، قال : لما قدم

رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أخذت أم سليم بيدى ، فقالت:

"يا رسول الله، هذا أنس، غلام لبيب، كاتب، يخدمك، قال: فقبلنى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.

 

عن أنس ، قال:

شهدت مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الحديبية، وعمرته، والحج، والفتح، وحنينا والطائف، وخيبر.

 

و قال أبو داود الطيالسى : حدثنا شعبة ، عن أنس بن سيرين ، قال : كان أنس أحسن الناس صلاة، فى السفر و الحضر .

 

و قال أبو نعيم الحلبى : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت أنس ابن مالك يقول :

ما بقى أحد ممن صلى القبلتين غيرى . قال أبو نعيم : والقبلتين بالمدينة ، بطرف الحرة ، قبلة إلى بيت المقدس ، و قبلة إلى الكعبة .

 

الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 109):

"سمي باسم عمِّهِ (أنس بن النضر). أمه: أم سليم بنت ملحان الأنصارية، كان مقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم المدينة ابنُ عشر سنين. وقيل: ابن ثمان سنين.

 

نص الحديث وشرحه:

 

وَعَنْ أَنَسٍ _رضي الله عنه_ قَالَ:

"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

 

* وفي "صحيح مسلم" (1/ 257/ 50) (رقم: 325) عن أَنَس، يَقُولُ:

«كَانَ رَسُولُ اللهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يَغْتَسِلُ بِخَمْسِ مَكَاكِيكَ، وَيَتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ» وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: بِخَمْسِ مَكَاكِيَّ،

 

وقال الأرنؤوط في تعليقه على "سنن أبي داود" (1/ 70):

"والمكوك: اسم لمكيال يختلف قدره حسب اصطلاح أهل بلده، والمقصود به هنا: المد، قاله ابن خزيمة وأبو خثيمة زهير بن حرب، ورجَّحه البغوي في "شرح السنة" 2/ 52، والنووي في "شرح مسلم" 2/ 7، وابن الأثير في "النهايه" 4/ 350، وبذلك توافق روايةُ شعبة رواية مسعر،

فالصاع المذكور في رواية مسعر أربعة أمداد، أي: كان يغتسل بأربعة أمداد وربما زاد عليه إلى خمسة أمداد.

وأما الرطل في رواية شريك فيساوي مداً وربع المد تقريباً، لأن الصاع الذي هو أربعة أمداد: خمسةُ أرطال وثلث. وانظر "فتح الباري" 1/ 364." اهـ

 

* وفي "سنن أبي داود" (1/ 23) (رقم: 94)، و"سنن النسائي" (1/ 58) (رقم: 74):

عن أُمِّ عُمَارَةَ [نسيبة بنت كعب الأنصارية الخزرجية النجارية]:

«أَنَّ النَّبِيَّ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ تَوَضَّأَ، فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ، فِيهِ مَاءٌ، قَدْر ثُلُثَيِ الْمُدِّ»

 

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ _رضي الله عنه_ قَالَ:

"إِنَّ النَّبِيَّ _صلى الله عليه وسلم_ أُتَيَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ، فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

 

Mudd: 620 gr

* 2/3 Mudd: 620 gr x 2/3 = 413,3 gr

 

Mudd: 0,8125 liter (812,5 ml)

* 2/3 Mudd: 812,5 ml x 2/3 = 541,6 ml

 

1 Sho’ = 2,48 kg = 3,1/4 liter (3,25 liter)

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 20)

وقال الشيخ عبد الله البسّام رحمه الله في "شرح بلوغ المرام":

"الصاع مكيالٌ معروفٌ، والمراد به الصاع النبويّ، ويبلغ وزنه (480) مثقالًا من البرّ الجيّد، وبالغرامات يبلغ (2500) غرامًا، فيكون بالكيلو اثنين من الأكيال، وخمسمائة غرام.

* والمدّ بضمّ الميم: مكيالٌ معروفٌ، وهو ربع الصاع النبويّ، ويُجمع على أمداد، ومُدَدٍ،

ومقداره بالغرامات: (625) غرامًا بحَبّ البرّ الجيّد الرزين. انتهى ["توضيح الأحكام " 1/ 237]، وهو تحقيقٌ مفيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب." اهـ

 

وفي "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" – ط. مكتَبة الأسدي، مكّة المكرّمة (1/ 250)

* الصاعُ: مكيالٌ معروفٌ، والمراد به الصاعُ النبويُّ، ويبلغ وزنه (480) مثقالًا من البر الجيد، وباللتر (3 لترات).

* المُدّ: بضم الميم، مكيالٌ معروف، وهو ربع الصالح النبوي، ويجمع على أمداد ومدد، ومقداره: (750) ملل.

 

فيض القدير (5/ 234):

"قال ابن جماعة: ولا يخفى أن الأبدان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانت أنبل وأعظم من أبدان الناس الآن لأن خلق الناس لم يزل في نقص إلى اليوم كما في خبر." اهـ

 

تخريج الحديث:

 

صحيح البخاري (1/ 51) (رقم: 201)، صحيح مسلم (1/ 258/ 51) (رقم: 325)، سنن أبي داود (1/ 24) (رقم: 95)، سنن النسائي (1/ 57 و1/ 127 و 1/ 179) (رقم: 73 و 229 و 345)،

 

من فوائد الحديث:

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 250)

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - كان هديه -صلى الله عليه وسلم- الاقتصاد في الأمور، حتَّى في الأشياء المتوفِّرة المبذولة؛ إرشادًا للناس، وتوجيهًا لهم إلى عدم الإسراف في الأمور.

2 - كان يتوضَّأ بالمُدِّ، وهو مكيال معروف؛ فالصَّاع أربعة أمداد، فيكون المد ربع الصاع، وقدره بالمعيار الحاضر (625) غرامًا، وباللتر (750) ملل.

3 - كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، يعني: من الصاع إلى الصاع والربع، مع وفرة شعره -صلى الله عليه وسلم-، والصاع النبوي: ثلاث لترات.

4 - فضيلة الاقتصاد في ماء الوضوء وفي غيره، وأنَّ الإسراف فيه ليس من هدي النَّبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (3/ 95)

بَيَان استنباط الحكم يستنبط مِنْهُ حكمان.

الأول: أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يغْتَسل بالصاع فَيقْتَصر عَلَيْهِ وَرُبمَا يزِيد عَلَيْهِ إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد، فَدلَّ ذَلِك أَن مَاء الْغسْل غير مُقَدّر بل يَكْفِي فِيهِ الْقَلِيل وَالْكثير إِذا أَسْبغ وَعم، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي: وَقد يرفق الْفَقِيه بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِي، ويخرق الأخرق فَلَا يَكْفِي، وَلَكِن الْمُسْتَحبّ أَن لَا ينقص فِي الْغسْل وَالْوُضُوء عَمَّا ذكر فِي الحَدِيث. وَقَالَ بَعضهم: فَكَأَن أنسا لم يطلع على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْتَعْمل فِي الْغسْل أَكثر من ذَلِك، لِأَنَّهُ جعلهَا النِّهَايَة. وَسَيَأْتِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنَّهَا كَانَت تَغْتَسِل هِيَ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد وَهُوَ: الْفرق، وروى مُسلم من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغْتَسل من إِنَاء يسع ثَلَاثَة أَمْدَاد. قلت: أنس، رَضِي الله عَنهُ، لم يَجْعَل مَا ذكره نِهَايَة لَا يتَجَاوَز عَنْهَا، وَلَا ينقص عَنْهَا وَإِنَّمَا حكى مَا شَاهده، وَالْحَال تخْتَلف بِقدر اخْتِلَاف الْحَاجة، وَحَدِيث الْفرق لَا يدل على أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَا يغتسلان بِجَمِيعِ مَا فِي الْفرق. وَغَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه يدل أَنَّهُمَا يغتسلان من إِنَاء وَاحِد يُسمى: فرقا، وكونهما يغتسلان مِنْهُ لَا يسْتَلْزم اسْتِعْمَال جَمِيع مَا فِيهِ من المَاء، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: ثَلَاثَة أَمْدَاد. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَفِيه رد على من قدر الْوضُوء وَالْغسْل بِمَا ذكر فِي حَدِيث الْبَاب: كَابْن شعْبَان من الْمَالِكِيَّة، وَكَذَا من قَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة مَعَ مخالفتهم لَهُ فِي مِقْدَار الْمَدّ والصاع. قلت: لَا رد فِيهِ على من قَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة، لِأَنَّهُ لم يقل ذَلِك بطرِيق الْوُجُوب، كَمَا قَالَ ابْن شعْبَان بطرِيق الْوُجُوب، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يجزىء أقل من ذَلِك. وَأما من قَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة فَهُوَ مُحَمَّد بن الْحسن، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: إِن المغتسل لَا يُمكن أَن يعم جسده بِأَقَلّ من مدر، وَهَذَا يخْتَلف باخْتلَاف أجساد الْأَشْخَاص، وَلِهَذَا جعل الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام للمتوضىء والمغتسل ثَلَاث أَحْوَال. أَحدهَا: أَن يكون معتدل الْخلق كاعتدال خلقه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيقتدي بِهِ فِي اجْتِنَاب النَّقْص عَن الْمَدّ والصاع. الثَّانِيَة: أَن يكون ضئيلاً ونحيف الْخلق بِحَيْثُ لَا يعادل جسده جسده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيُسْتَحَب لَهُ أَن يسْتَعْمل من المَاء مَا يكون نسبته إِلَى جسده كنسبة الْمَدّ والصاع إِلَى جسده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِيَة: أَن يكون متفاحش الْخلق طولا وعرضاً وَعظم الْبَطن وثخانة الْأَعْضَاء، فَيُسْتَحَب أَن لَا ينقص عَن مِقْدَار يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى بدنه كنسبة الْمَدّ والصاع إِلَى بدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

ثمَّ إعلم أَن الرِّوَايَات مُخْتَلفَة فِي هَذَا الْبَاب، فَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يغْتَسل بالصاع وَيتَوَضَّأ بِالْمدِّ) . وَمن حَدِيث جَابر كَذَلِك، وَمن حَدِيث أم عمَارَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَأتى بِإِنَاء فِيهِ مَاء قدر ثُلثي الْمَدّ) . وَفِي رِوَايَته عَن أنس: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ بِإِنَاء يسع رطلين ويغتسل الصَّاع) . وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي (صَحِيحَيْهِمَا) ، وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث عبد الله بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِثُلثي مد من مَاء فَتَوَضَّأ، فَجعل يدلك ذِرَاعَيْهِ) . وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الثَّوْريّ: حَدِيث أم عمَارَة حسن. وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: (كَانَت تَغْتَسِل هِيَ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِنَاء وَاحِد يسع ثَلَاثَة أَمْدَاد) . وَفِي رِوَايَة: (من إِنَاء وَاحِد تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ) وَفِي رِوَايَة (فدعَتْ بأناء قدر الصَّاع فاغتسلت فِيهِ) وَفِي آخِره كَانَت تَغْتَسِل بِخَمْسَة مكاكيك وتتوضأ بمكوك وَفِي اخرى: (تغسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصاع وتوضئه بِالْمدِّ) . وَفِي أُخْرَى: (يتَوَضَّأ بِالْمدِّ ويغتسل بالصاع إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (بِنَحْوِ من صَاع) ، وَفِي لفظ: (من قدح يُقَال لَهُ: الْفرق) ، وَعند النَّسَائِيّ فِي كتاب (التَّمْيِيز) : نَحْو ثَمَانِيَة أَرْطَال) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد بن منيع: (حزرته ثَمَانِيَة أَو تِسْعَة أَو عشرَة أَرْطَال) .___

وَعند ابْن مَاجَه، بِسَنَد ضَعِيف عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يجزىء من الْوضُوء مد، وَمن الْغسْل صَاع). وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث ابْن عَبَّاس،

وَعند أبي نعيم فِي (معرفَة الصَّحَابَة) من حَدِيث أم سعد بنت زيد بن ثَابت ترفعه: (الْوضُوء مد وَالْغسْل صَاع) .

وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَيْسَ معنى الحَدِيث على التَّوْقِيت أَنه لَا يجوز أَكثر من وَلَا أقل، بل هُوَ قدر مَا يَكْفِي.

وَقَالَ النَّوَوِيّ: (قَالَ الشَّافِعِي وَغَيره من الْعلمَاء الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات: إِنَّهَا كَانَت اغتسالات فِي أَحْوَال وجد فيها أَكثر مَا اسْتَعْملهُ وَأقله، فَدلَّ على أَنه لَا حدَّ فِي قدر مَاء الطَّهَارَة يجب اسْتِيفَاؤهُ).

قلت: الْإِجْمَاع قَائِم على ذَلِك، فالقلة وَالْكَثْرَة بِاعْتِبَار الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال. فَافْهَم.

وَالْفرق - بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء -، وَقَالَ ابو زيد: (بِفَتْح الرَّاء وسكونها)، وَقَالَ النَّوَوِيّ: (الْفَتْح أفْصح)، وَزعم الْبَاجِيّ أَنه الصَّوَاب، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بل هما لُغَتَانِ.

وَقَالَ ابْن الاثير: (الْفرق، بِالتَّحْرِيكِ: يسع سِتَّة عشر رطلا، وَهُوَ ثَلَاثَة أصوع. وَقيل: الْفرق خَمْسَة أقساط، وكل قسط نصف صَاع. وَأما الْفرق، بِالسُّكُونِ، فمائة وَعِشْرُونَ رطلا)،

وَقَالَ أَبُو دَاوُد: (سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: الْفرق سِتَّة عشر رطلا، والمكوك إِنَاء يسع الْمَدّ، مَعْرُوف عِنْدهم(.

وَقَالَ ابْن الْأَثِير: )المكوك: الْمَدّ، وَقيل: الصَّاع، وَالْأول أشبه، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الحَدِيث مُفَسرًا بِالْمدِّ(.

وَقَالَ أَيْضا: )المكوك اسْم للمكيال، وَيخْتَلف مِقْدَاره باخْتلَاف اصْطِلَاح النَّاس عَلَيْهِ فِي الْبِلَاد، وَيجمع على مكاكي بإبدال الْيَاء بِالْكَاف الاخيرة، ويجىء أَيْضا على مكاكيك(.

الحكم الثَّانِي: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ بِالْمدِّ، وَهُوَ رطلان عِنْد أبي حنيفَة. وَعند الشَّافِعِي: رَطْل وَثلث بالعراقي، وَقد ذَكرْنَاهُ،

وَأما الصَّاع: فَعِنْدَ أبي يُوسُف خَمْسَة أَرْطَال وَثلث رَطْل عراقية، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد.

وَقَالَ ابو حنيفَة وَمُحَمّد: الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال، وَحجَّة أبي يُوسُف مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَنهُ، قَالَ: قدمت الْمَدِينَة، وَأخرج إِلَى من أَثِق بِهِ صَاعا، وَقَالَ: هَذَا صَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَجَدته خَمْسَة أَرْطَال وَثلث،

وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَسمعت ابْن عمرَان يَقُول: الَّذِي أخرجه لأبي يُوسُف هُوَ مَالك. وَقَالَ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ: سَمِعت عَليّ بن الْمَدِينِيّ يَقُول: عبرت صَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدته خَمْسَة أَرْطَال وَثلث رَطْل، وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بِحَدِيث جَابر وَأنس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 20)

قال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء، ولو كان على شاطئ البحر، والأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال بعض أصحابنا: الإسراف حرام. انتهى ["شرح النوويّ" 4/ 2].

قال الجامع عفا الله عنه:

القول بتحريم الإسراف، هو الأرجح عندي؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]،

وقوله عز وجل: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} الآية [الإسراء: 26 - 27]،

فإن التحريم ظاهر في الآيتين، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 17_19)

في أقوال أهل العلم في مقدار الماء الذي يُغتسل به:

(اعلم): أنه قد اختلفت الروايات في هذا الباب،

* ففي رواية المصنّف، من حديث عائشة - رضي الله عنها -:

"كانت تغتسل هي والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد"،

* وفي رواية:

"من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه"،

* وفي رواية:

"فدَعَت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت فيه"،

* وفي حديث أنس - رضي الله عنه -:

"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بخمسة مكاكيك، ويتوضأ بمكّوك"،

* وفي حديثه الآخر:

"كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد"،

* وفي حديث سفينة - رضي الله عنه -:

"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسله الصاع من الماء، ويوضئه المدّ".

* وفي رواية البخاريّ: "بنحو من صاع"،

* وفي لفظ: "من قَدَح، يقال له الفرق".

* وفي رواية أبي داود، من حديث عائشة - رضي الله عنها -:

"أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد" [صحيح]،

* ومن حديث جابر كذلك، ومن حديث أم عمارة - رضي الله عنها -:

"أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأُتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي المدّ" [صحيح]،

* وفي روايته عن أنس - رضي الله عنه -:

"كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بإناء يسع رطلين، ويغتسل___بالصاع"،

* وفي رواية ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم في "مستدركه"، من حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -:

"أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بثلثي مدّ من ماء، فتوضأ، فجَعَل يدلُك ذراعيه"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

قال الجامع عفا الله عنه: الجمع بين هذه الروايات - كما قاله المحقّقون - أنها كانت اغتسالات في أوقات مختلفة، نُقل فيها أكثر ما استعمله النبيّ _صلى الله عليه وسلم_، وأقلّه، فدلّ على أنه لا حدّ في قدر ماء الطهارة، يجب الوقوف عنده، والله تعالى أعلم.

قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ - بعد ذكر اختلاف الروايات:

(اعلم): أن اختلاف هذه المقادير، وهذه الأواني يدلّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُراعي مقدارًا مؤقّتًا، ولا إناءً مخصوصًا، لا في الوضوء، ولا في الغسل، وأن كلّ ذلك بحسب الإمكان والحاجة، ألا ترى أنه تارةً اغتسل بالْفَرَق، وأخرى بالصاع، وأخرى بثلاثة أمداد.

والحاصل: أن المطلوب إسباغ الوضوء والغسل من غير إسراف في الماء، وأن ذلك بحسب أحوال المغتسلين، وقد ذهب ابنُ شعبان إلى أنه لا يُجزئ في ذلك أقلّ من مدّ في الوضوء، وصاعٍ في الغسل، وحديث الثلاثة أمداد يردّ عليه، والصحيح الأول. انتهى ["المفهم" 1/ 581].

وقال النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ -:

أجمع المسلمون على أن الماء الذي يُجزئ في الوضوء والغسل غير مُقَدَّر، بل يكفي فيه القليل والكثير، إذا وُجد شرط الغسل، وهو جَرَيان الماء على الأعضاء،

قال الشافعيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقد يَرْفُق بالقليل، فيكفي، وَيَخْرَقُ بالكثير فلا يكفي.

قال العلماء: والمستحب أن لا ينقص في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مُدّ، والصاع خمسة أرطال وثلث بالبغداديّ، والمدّ رطل وثلث، وذلك معتبر على التقريب، لا على التحديد، وهذا هو الصواب المشهور،___

وذكر جماعة من أصحابنا وجهًا لبعض أصحابنا أن الصاع هنا ثمانية أرطال، والمدّ رطلان.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في المسألة أن الماء الذي يتوضّأ به، أو يُغتسل به، لا حدّ له يُلتزم، ما لم يبلغ في الزيادة حدّ الإسراف، فيُمنَعَ، أو في النقص حدًّا لا يُسمّى غسلًا، بل مسحًا، وذلك بأن لا يتقاطر أصلًا، فيكون باطلًا، والله تعالى أعلم." اهـ

 

إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 162)

ولا حَدَّ فى ذلك فى مشهور مذهبنا، إِلَّا أن التقلل من الماء مع الإسباغ من مستحبات الغسل والوضوء." اهـ

 

إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 164)

وكل هذا قريبٌ بعضُه من بعضٍ، وكله يدُل أن سُنة الطهارة تقليل الماء مع الإسباغ خلافاً للأباضيَّةِ من الخوارج.

 

[تعليق]:

مقدار الفرق: ثلاثة آصع.

 

عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/ 115)

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالِ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ

وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَدَّرَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ بِمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ وَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُونَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ قَدَّرَ وُضُوءَهُ وَغُسْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدَّرَهُمَا بِذَلِكَ فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ سَفِينَةَ مِثْلَهُ وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ وَهَذَا إِذَا لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ وَهُوَ أَيْضًا فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ خَلْقُهُ مُعْتَدِلًا

كَذَا فِي الْفَتْحِ وَيَجِيءُ بَعْضُ بَيَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُجْزِئُ بِهِ الغسل." اهـ

 

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (8/ 105)

وَهَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا إِنَّمَا رُوِيَتْ إِنْكَارًا عَلَى الْإِبَاضِيَّةِ وَجُمْلَتُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا تَوْقِيتَ فِيمَا يَكْفِي مِنَ الْمَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمَاءَ لَا يُكَالُ لِلْوُضُوءِ وَلَا لِلْغُسْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِحَدِيثِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ وَمَنْ قَالَ بِحَدِيثِ الْفَرَقِ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ لَا يُكَالُ (الْمَاءُ) لِوُضُوءٍ وَلَا لِغُسْلٍ لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَلَوْ كَانَتِ الْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّحْدِيدِ الَّذِي لَا يُتَجَاوَزُ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا مَا كَرِهُوا الْكَيْلَ بَلْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَهُ اقْتِدَاءً وَتَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَكْرَهُونَه

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 213)

ومن فوائده أيضا: أنه ينبغي للإنسان أن يكون مقتصدا في العبادة، لا يزيد عليها لا كمية ولا كيفية،

وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الكمية - لما توضأ ثلاثا - قال: "من زاد على ذلك، فقد أساء وتعدى وظلم". [د س ق]

ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن نقتدي بالرسول - عليه الصلاة والسلام- في هذا، ولهذا قال العلماء: يسن أن يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وهذا ممكن إذا كان الإنسان يغترف من إناء، يعني: ممكن أن يتوضأ بهذا القدر، لكن إذا كان يصب عليه من المواسير فإن ذلك لا يمكن، ولا يمكن انضباطه." اهـ

 

شرح سنن أبي داود للعباد (19/ 1، بترقيم الشاملة آليا)

الإسراف والتبذير مذمومان في كل شيء، ومن ذلك الإسراف في الوضوء والغسل، فعلى المسلم أن يستعمل من الماء ما يكفيه في وضوئه وغسله ولا يزيد، وليكن قدوته في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أكمل الناس جسماً وأوفرهم شعراً، ومع هذا كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع.

 

شرح سنن أبي داود للعباد (19/ 3، بترقيم الشاملة آليا)

والمقصود من ذلك: أن الإنسان عليه أن يتوضأ ويجري الماء على جميع أعضاء الوضوء، وأقل شيء يكفي في ذلك ما يحصل به الإجزاء، والإسباغ هو: أن يجعل ذلك ثلاث مرات، ويجعل الماء يسيل على أعضائه، ويدلك أعضاءه.

والإجزاء هو: وصول الماء إلى جميع أعضاء الجسد مرة واحدة، وقد جاء في هذا الحديث أنه كان يتوضأ بالمد، وجاء في بعض الأحاديث التي ستأتي أنه كان يكفيه ثلثي المد، يعني: أقل من مد، هذا فيما يتعلق بالوضوء، وأما الاغتسال فجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل بالصاع، ويغتسل بخمسة أمداد، أي: بصاع ومد.

 

شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (5/ 92_101):

"هذا النوع - أعني: مراعاةَ هذا القدر - فرعٌ من فروع قاعدةٍ شرعية؛ وهي الاقتصاد في المصالح والطاعات،___

والاقتصاد رتبةٌ بين رتبتين، ومنزلةٌ بين منزلتين:

فالمنزلة الدنيا: التقصيرُ في جلبِ المصالحِ، وهو مذموم.

والمنزلة القُصوى: الإسرافُ في جَلْبها، ويدخل فيه الغلوُّ في الدينِ والتنطُّعُ، وهو مذموم.

والاقتصاد: التوسُّط بينهما، وهو محمود، كما قيل الحسنة بين السيئتين؛ بمعنى: أن التقصيَر سيئةٌ، والإسرافَ سيئةٌ، والحسنةُ ما توسط بين الإسراف والتقصير، وخيرُ الأمور أوساطها،

وها هنا أمرٌ دقيقٌ عَسِرٌ في العلمِ به، وفي العمل، في مواضع: منها:

الفرق بين الوَرَعِ والوَسْوَاسِ، فإن الوسواسَ مذمومٌ، والورعَ محمودٌ.

وآخرُ كل مرتبة تلي الأخرى، وأولُ الأخرى تلي آخرَ الأولى، وهذا في الأخلاق والشجاعة والتهوُّر؛ فإنَّ الشجاعةَ محمودةٌ، فإذا زادت على القدرِ المطلوبِ، انتهت إلى التهوُّر المذموم.

وكذلك التحرز والاحتياط والنظر في العواقب محمودٌ، فإذا أفرط، انتهى إلى الجُبْنِ والخَوَرِ المذموم.

فهذا هو العسر في معرفة التوسط علماً وعملاً، حيث تتقارب المراتب، فأمَّا إذا تباعدت، فلا إشكال.

ولمرتبة الاقتصاد في الشرع أمثلة:

أحدها: التوسط في الإنفاق {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67].___

وثانيها: التوسط في العبادة، وعدم تكليف النفس ما لا تطيقُ الدوام عليه، وتؤدي إلى الملالة والسآمة "إنَّ هذا الدينَ متينٌ، فَأوْغِلْ فيه بِرفْقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِك عبادةَ الله."[2]

"ألا هلك المتنطِّعون" [م] [3]

وقيل لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: هذه الحولاءُ بنتُ تويت، لا تنامُ الليل، فقال: "لا تنام الليل! اكلفوا من العملِ ما لكم به طاقة.". [4]

وروى بعض الصحابة النَّهي عن التبتُّل، فقال: ولو أُذِنَ لنا، لاختصينا. [5]___

ورَدَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن عمرو التزامَه قيامَ الليل، وصيامَ النهار، ولم يُقِرَّه على طلب كثرةِ التلاوةِ، التي رامَها.[6]

وثالثها: ما تعلق بالزيادة في لذات الدُّنيا، فإن الشَّرعَ دل على طلبِ الزهدِ في الدُّنيا، وذمَّ قوماً أذهبوا طيباتهِم في حياتهم الدُّنيا، فتكلَّف قومٌ من أهل الرِّيادة أموراً شاقة، والتزموا تركَ مباحاتٍ؛ كالزواجِ، وأكلِ بعضِ الطيِّباتِ، فردَّ عليهم؛ قال عليه أفضل الصَّلاة والسلام: "من رَغِبَ عن سُنَّتي، فليسَ منِّي"[7]، وقصة عثمان مع عامر بن عبد قيس - رضي الله عنهما - أحد الثمانية الزهاد، مذكورة.

ورابعها: الشريعة طافِحَةٌ بمجاهدَةِ النَّفس، ورَدْعِها عن شهواتها، وأخلاقِها المذمومة، فتكلَّف المتعبِّدون والمتصوِّفون أفعالاً شاقَّة، قصدوا بها المجاهَدة، وتوغَّلوا في ذلك، فكان هذا في جانب الفعل، كما تقدَّم في جانب التَّرك، من الامتناع عن المباحات، وأُنكِر بعض ذلك، وقيل: إنه تصرُّف في المملوك بغير إذن المالك،___فإن الأنفس ليست مِلْكاً لإنسان، بل هي مِلْكٌ لله تعالى، فالتصرفُ فيها بغير ما أَذِنَ فيه ممتنعٌ، وهذا كلّه يشّهد لك ما ذكرناه من صعوبة الفرق علماً وعملاً.

وخامسها: ما نحن فيه، فإن إسباغَ الوضوءِ مطلوبٌ: "ويلٌ للأعقابِ من النَّارِ، أسبِغُوا الوضوء"[8]، والزيادة سَرَفٌ ممنوعٌ، كما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو.

وسادسها: المواعظُ النَّافعةُ في الدين المؤدِّيةُ إلى سلوك سبيل المتقين مطلوبةٌ شرعًا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، والإكثارُ منها يُسْقِط وَقعها، ويؤدي إلى السآمة منها، فتبطُل فائدتُها المطلوبة، فالاقتصادُ هو المحمود: "كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يتخوَّلُنا بالموعِظَةِ مخافةَ السآمِة علينا".[9]

وانظر إلى الحِكْمة الشَّرعية في جعلها مرةً في الأسبوع؛ لأنَّ طولَ تركِها يُطْغي النفسَ، ويقوِّي دواعِيَها المذمومةَ، فربما عَسُرَ ردُّها بعد تمكُّنِها من النَّفس، وكثرةِ فعلها فيه ما ذكرنا من إيطال فائدتها وحكمها، فتوسط في ذلك.___

وسابعها: الاقتصادُ في العقوبات، والحدود، والتعزيرات، بأنْ يُعاقَب كلُّ واحد من الزُّناة على حسب ضَعْفه وقُوَّته، فلا يجلد الزَّاني والقاذفُ جَلْدَ مبالغةٍ بحيث يُسْفَح الدم، ولا يُضْرب ضرباً لا أثر له في الزَّجْر والردع، بل يكون ضَرْباً بين ضربين، وسَوْطاً بين سوطين، وزَماناً بين زمانين؛ أي: يُتَجَنَّبُ زمنُ الحرِّ الشديد، والبردِ الشديد، أعني: حينَ إقامة الحدود، وكذلك الاقتصاد في التأديبات للرقيق، والصِّبيان، والبهائم، والنِّسوان.

وثامنها: الإحسانُ في صفة الهلاك إذا وجب، أو جاز، كما قيل في الزاني إذا رُجِم لا يرجَمُ بحصَيَاتٍ، ولا بصَخراتٍ، وإنَّما يرجم بما تقتضيه العادة في مِثله، وكذلك في ذَبْح الحيوان: "إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحْتُم، فأحسنوا الذِّبْحَةَ." [10]

وتاسعها: الاقتصادُ في الدُّعاء، قيل: لأنَّ الغالبَ على أدعية رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في الصَّلاة وغيرها اختصارُ الأدعيةِ، فنُقِلَ عنه - صَلَّى الله عليه وسلم - دعواتٌ جامعاتٌ، وغيرُ جامعاتٍ، وعلَّة ذلك: أنَّ الله تعالى أمرَ بالتضرُّع، والخِيفة في الدُّعاء، ولا يحصل ذلك غالبًا إلَّا بتكلف، وإذا___طال الدعاء، عَزَبَ التضرُّع والإخْفاءُ، وذهبَ أدبُ الدعاء، وقد استحبَّ الشافعيُّ أن يكون دعاءُ التشهُّدِ دون التشهُّدِ، انتهى.[11]

قلت: وقد وردَ أنَّ قوماً يعتدون في الطُّهور والدُّعاء.[12]

وعاشرها: ما دل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].

والحادي عشر منها: الأكلُ والشربُ، بحيث لا يتجاوز حدَّ الشِّبَعِ والرِّيِّ، ولا يقتصرُ على ما يُضْعِفُ ويُقْعِدُ عن العباداتِ والتصرفاتِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

الثَّاني عشر منها: الاقتصادُ في السَّيْر إلى الحَجِّ والعُمْرة.

والثالث عشر منها: زيارُة الإخوانِ مطلوبةٌ مُرَغَّبٌ فيها، والإكثارُ منها داعيةُ الملالة: "زُرْ غِبًّا، تزدْد حُبًّا." [13]،

والإبطاءُ فيها___يُسلِم إلى الجفاء والوَحْشة.

والرابع عشر منها: مخالطةُ النِّساءِ، وحسنُ العِشْرةِ معهن، إذا أكثرَ منه غلبت عليه أخلاقُهُنَّ، وإذا أقَلَّ منه جاء استثقالُهنَّ واستجفاؤهنَّ.

الخامس عشر منها: دراسة العلوم في الكثرةِ والقلةِ؛ فالأول: يؤدي إلى السآمة، والثاني: يؤدي إلى القُصور فيها.

والسادس عشر منها: السؤال عما تدعو الحاجةُ إلى السؤال عنه من أمور الدُّنيا، الإكثارُ منه مذمومٌ، ووردتْ فيه أحاديثُ، وتوعُّدات، والإقلالُ عند الحاجة والضرورة مُضِرٌّ، وقد ينتهي بعضُه إلى الحُرْمة.

والسابع عشر منها: المُباح من المِزاح، والانبساطِ، واللعبِ، والضحكِ؛ والكثرةُ منه مذمومةٌ، مُذْهِبة للخشوع، مُوْجِبة للخروج عن السَّمْت الحَسَنِ، والإقلالُ منه جداً داخل في الانقباض المُوْحِشِ للمخالطين والزائرين، وربما أدَّى إلى نَفْرَة الأنفس عن قومٍ صالحين.___

[من السريع]:

إنْ شِئْتَ أنْ تُصْبحَ بينَ الوَرَى ... ما بَيْنَ شَتَّامِ ومُغْتَابِ

فكُنْ عَبُوسًا حينَ تلقاهُمُ ... أو خَالِطِ النَّاسَ بإِغْرابِ.[14]

وقد ينتهي بعضُ المتنطِّعين في هذا إلى سوءِ العِشْرة، والإنكار فيما لا يُنْكَر، بل ربَّما ينتهي بعضهم إلى إنكارِ استعمالِ المَجَازِ في اللغةِ، التي امتلأت لغةُ العربِ منه، وربَّما فوَّتَ بعضُهم مصالحَ، وأوقعَ مفاسدَ أشدَّ ممَّا رغب فيه، أو نهى عنه.

والثامن عشر منها: المَدْحُ، وَرَدَ فيه الذَّمُّ: "احثوا في وَجْهِ المدَّاحِيْنَ التُّرابَ."[15]، ويُحْمَلُ على المذمومِ منه، فإنَّ الإكثارَ من المدحِ فيه مفسدَةُ التخطي إلى الكذب والوقوع فيه، ومفسدةُ فسادِ نفسِ الممدوحِ، بما يحدث عنده من الكِبْرِ، والفخرِ، فاليسيرُ منه عند مسيسِ الحاجة إليه ترغيبٌ للممدوح ممَّا مُدِحَ به، وتذكيرٌ له بنعمة الله عليه ليشكُرَها، فيتحرَّزُ من المفسدة، ويفعل المصلحةَ، حيثُ تؤْمَنُ الفتنةُ للممدوحِ.

قال بعض المتكلمين في هذا المعنى: وعلي الجملة، فلا ينبغي___لعاقل أن يخطرَ بقلبه، ولا يجري على جوارحه، إلَّا ما يَجلبُ صلاحاً، أو يَدرأ فسادًا، فإن سَنَحَ له غيرُ ذلك، فليدرأه ما استطاع." اهـ



[1]  والأثر ضعيف لأجله

[2]  رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 19)، وفي "شعب الإيمان" (3886)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف، ولقوله: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق" شاهد عند الإمام أحمد، فهو حسن إن شاء الله.

وانظر: "السلسلة الضعيفة" (5/ 479).

[3]  رواه مسلم (2670)، كتاب: العلم، باب: هلك المتنطعون، وأبو داود (4608)، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، واللفظ له، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه..

[4]  رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 118) بلاغاً، ووصله ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 191)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[5]  رواه البُخاريّ (4786)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء، ومسلم (1402)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

[6]  كما تقدم تخريجه عند البُخاريّ ومسلم.

[7]  رواه البُخاريّ (4776)، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، ومسلم (1401)، كتاب: النكاح، باب: استحجاب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[8]  تقدم تخريجه عند البُخاريّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9]  رواه البُخاريّ (68)، كتاب: العلم، باب: ما كان النَّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، ومسلم (2821)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: الاقتصاد في الموعظة، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

[10]  رواه مسلم (1955)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.

[11]  انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (3/ 517).

[12]  رواه أبو داود (96)، كتاب: الطهارة، باب: الإسراف في الماء، وابن ماجه (3864)، كتاب: الدعاء، باب: كراهية الاعتداء في الدعاء، من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. وإسناده صحيح، كما قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 144).

[13]  رواه الطّبرانيّ في "المعجم الكبير" (3535)، وفي "المعجم الأوسط" (3052)، وفي "المعجم الصغير" (296)، والحاكم في "المستدرك" (5477)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (8363)، من حديث حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنه.

قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 248): وهذا الحديث قد روي عن جماعة من الصحابة، وقد اعتنى غير واحد من الحفَّاظ بجمع طرقه والكلام عليه، ولم أقف على طريق صحيح كما قال البزار، بل له أسانيد حسَّان عند الطّبرانيّ وغيره.

قال الحافظ في "الفتح" (10/ 498): وقد ورد من طرق أكثرها غرائب، لا يخلو واحد منها من مقال. وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره، وقد جمعتها في جزء مفرد، انتهى.

قلت: ذكره الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 278) وسماه: "الإنارة بطرق غب زيارة"، ثم قال: وبمجموعها يتقوى الحديث، وإن قال البزار: إنه ليس فيه حديثٌ صحيحٌ، فهو لا ينافي ما قلناه.

[14]  البيتان لابن وكيع التنيسي، كما ذكر الثعالبي في "يتيمة الدهر" (5/ 40).

[15]  رواه مسلم (3002)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: النَّهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، وخيف منه فتنة على الممدوح، عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة