شرح الحديث 132-134 (9 - (الترهيب من أنْ يعلَم ولا يَعمل بعلمه، ويقول ما لا يفعله).) من صحيح الترغيب

 

132 - (10) [صحيح] عن عمران بن حُصَين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

"إنّ أخوَف ما أخافُ عليكم بعدي، كلُّ منافقٍ عَليمِ اللسانِ".

رواه الطبراني في "الكبير"، والبزار، ورواته محتجّ بهم في "الصحيح" (4).

__________

(4) قلت: وفاته "صحيح ابن حبان" (51/ 91 - موارد).

 

ترجمة عِمْران بن الحُصَيْن الخزاعي _رضي الله عنه_:

 

وفي "الأعلام" للزركلي (5/ 70_71):

"عِمْران بن الحُصَيْن (000 - 52 هـ = 000 - 672 م)

عمران بن حصين بن عبيد، أبو نُجيد الخزاعي: من علماء الصحابة. أسلم عام خيبر سنة 7 هـ، وكانت معه راية خزاعة يوم فتح مكة. وبعثه عمر__إلى أهل البصرة ليفقههم. وولاه زياد قضاءها. وتوفي بها. وهو ممن اعتزل حرب صفين.

له في كتب الحديث 130 حديثا." اهـ

 

وفي "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (2/ 508)

"أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوْهُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فِي وَقْتٍ، سَنَةَ سَبْعٍ." اهـ

 

وفي "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (2/ 509):

"وَقَدْ غَزَا عِمْرَانُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَانَ يَنْزِلُ بِبِلاَدِ قَوْمِهِ، وَيَتَرَدَّدُ إِلَى المَدِيْنَةِ." اهـ

 

وفي "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (2/ 511):

"تُوُفِّيَ عِمْرَانُ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. مُسْنَدُهُ: مائَةٌ وَثَمَانُوْنَ حَدِيْثاً." اهـ

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البزار في "المسند" = البحر الزخار (9/ 13) (رقم: 3514)، وأبو بكر الفريابي في "صفة النفاق وذم المنافقين" (ص: 67) (رقم: 23)، وابن حبان في صحيحه (1/ 281) (رقم: 80)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 237) (رقم: 593)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 272) (رقم: 1639)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 1200) (رقم: 2360)، وعبد الغني المقدسي في "نهاية المراد من كلام خير العباد" (2/ 81) (رقم: 77).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في "صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" (1/ 124) (رقم: 77)، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 107 و1/ 323) (رقم: 239 و 1554)، التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (1/ 199) (رقم: 80)، صحيح الترغيب والترهيب (2/ 585) (رقم: 2330)

 

 

وقال حمود بن عبد الله التويجري (المتوفى: 1413 هـ) _رحمه الله_ في "غربة الإسلام" (1/ 369):

وأما النفاق الأصغر فهو نفاق العمل.

قال الحسن _رحمه الله تعالى_:

كان يقال: النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وكان يقال: أُسُّ النفاق الذي بني عليه الكذب.

وروى الإمام أحمد في الزهد، عن الحسن أنه قال: (الكذب جماع النفاق)." اهـ

 

وقال أبو الحسن علي بن محمد البصري البغدادي، الشهير بـ"الماوردي" (المتوفى: 450هـ) _رحمه الله_ "تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك" (ص: 275):

"فهم لَا يستحدثون إِلَّا مَا ابتدعوه، وَلَا ينصرونه إِلَّا بِمَا اخترعوه___يعدلُونَ بِهِ عَن ظَاهر جلي إِلَى بَاطِن خَفِي، يجلبون بِهِ قُلُوب الأعوام، ويعتضدون على نصرته بالغاغة الأشرار، فيشعرهم أَنهم أظهرُوا لَهُمُ الْحَقَّ بَعْدَ كُمُوْنِهِ، وأوصلوهم إِلَى مَا اسْتَأْثر الله بِهِ دينه، فيصيبوا إِلَيْهِم الغر المختدع، ويميلُ مَعَهم الْجَاهِلُ المتبع إِلَى أَن يتكاثر جمعهم بِخَلَابَةِ كَلَامِهم ولُطْفِ بيانِهِمْ مَعَ أَنَّ لِكُلِّ جَدِيْدٍ لَذَّةً، وَلكُلِّ مُسْتَحْدَثٍ صَبْوَةً، وَقد قَالَ النَّبِي _صلى الله عَلَيْهِ وَسلم_:

(إِن من الْبَيَان لسحرا) [خ][1]

وَقَالَ:

(إِن أخوف مَا أَخَاف على أمتِي مُنَافِق عليم اللِّسَان)

فَتَصِير الْبدعُ حِينَئِذٍ فَاشِيةً، ومذاهبُ الْحَقِّ وَاهِيَةً، ثمَّ يُفْضِي بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى التحزُّبِ، ويؤول إِلَى التعصُّبِ، لِأَن لكل مَذْهَب شعارا، وَلكُل شعارٍ أنْصَارًا، وَلكُل أنصارٍ صَوْلَةً وَلكُل صَوْلَةُ دولةٍ،

فَإِذا رَأَوْا ظُهُور شعارهم وَكَثْرَة أنصارهم دَاخَلَهم عزةُ الْقُوَّةِ وَنَخْوَة الْكَثْرَةِ، فتَضَافَرَ جهالُ نُسَّاكِهِمْ، وفَسَقَةُ عُلَمَائِهِمْ بالميل إِلَى مخالفتهم.

فَإِذا استتب ذَلِك لَهُمْ، رابحوا السُّلْطَانَ فِي رياستِهِ، وقبَّحُوْا عِنْد الْعَامَّة جميْلَ سيرتِهِ، فَرُبمَا انفتق مِنْهُ مَا لَا يرتتق فَإِن كبار الْأُمُور تبدو صغَارًا،

وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي _صلى الله عَلَيْهِ وَسلم_ أَنه قَالَ:

(أهلك أمتِي رجلَانِ عَالم متهتك وجاهل متنسك)." اهـ

 

[تعليق]:

الحديث الأخير الذي ذكره الماوردي، لم أعثر عليه مرفوعا، إلا أنه ورد في بعض الكتب موقوفا على علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_. ففي "إحياء علوم الدين" (1/ 58):

"وقال الله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل إذ يزل بزلته عالم كثير ويقتدون به

ومن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عمل بها

ولذلك قال علي _رضي الله عنه_: (قصم ظهريْ رجلانِ: عالم متهتك، وجاهل متنسكٌ. فالجاهل يغر الناس بتنسكه والعالم يغرهم بتهتكه)، والله أعلم." اهـ

 

وقال محمد بن إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني" (المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "التنوير شرح الجامع الصغير" (1/ 461):

"ونِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَى اللسانِ مع أنَّ الْعِلْمَ حصول صور الشيء في العقل أو عنده، لأنه فارغ القلب عن العلم واعتقاد الحق، بل قلْبُهُ مملوءٌ بالضلالاتِ واعتقادِ الكفرياتِ، فَعِلْمُهُ ليس إِلاَّ فِيْ لِسَانِهِ." اهـ

 

وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031هـ) _رحمه الله في "فيض القدير" (2/ 419):

"(إن أخوف ما أخاف على أمتي)

قال الطيبي:

أضاف أفعل إلى ما وهي نكرة موصوفة ليدل على أنه إذا استقصى الأشياء المخوفة لم يوجد أخوف من قول (كل منافق عليم اللسان) أي كثير علم اللسان جاهل القلب والعمل

اتخذ العلم حرفة يتأكل بها ذا هيبة وأُبْهة، يتعزز، ويتعاظم بها، يدعو الناس إلى الله ويفر هو منه، ويستقبح عَيْبَ غَيْرِهِ، ويفعَلُ ما هو أقبح منه، ويُظْهِرُ للناس التنسكَ والتعبدَ، ويسارِرُ ربَّهُ بالعظائم، إذا خلا به ذِئْبٌ من الذِئَابِ، لكن عليه ثياب.

فهذا هو الذي حذر منه الشارع _صلى الله عليه وسلم_ هنا حَذَرًا من أن يَخْطَفَكَ بحلاوة لسانه، ويحرقَك بنار عصيانه، ويَقْتُلَكَ بِنَتَنِ بَاطِنِهِ وجَنَانِهِ." اهـ

 

"قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ _رحمه الله_ في "الميسر في شرح مصابيح السنة" (1/ 105)

"حَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ مَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى اللِّسَانِ فَأَفَادَ الْعَمَلَ وَأَوْرَثَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى، وَأَمَّا الَّذِي يَتَدَارَسُ أَبْوَابًا مِنْهُ لِيَتَعَزَّزَ بِهِ وَيَتَأَكَّلَ بِهِ، فَإِنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الرُّتْبَةِ الْعُظْمَى لِأَنَّ الْفِقْهَ تَعَلَّقَ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ _كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ_: (وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ)." اهـ

وانظر: "تحفة الأحوذي" (7/ 378):

 

وقال أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بـ"الراغب الأصفهاني" (المتوفى: 502هـ) _رحمه الله_ في "الذريعة الى مكارم الشريعة" (ص: 184)

حق الواعظ أن يتعظ ثم يعظُ، ويُبصر ثم يُبَصِّر، ويهتدي ثم يهدي، ولا يكون كدفتر يفيد ولا يستفيد، وكمِسَنٍّ يَشْحَذُ، ولا يقطع، بل يكون كالشمس التي تفيد القمَرَ الضَّوْءَ، ولها أفضل مما تفيده، وكالنار التي تَحْمِي الْحَدِيْدَ، ولها من الحمى أكثر مما تفيد، ويجب أن لا يجرح مقاله بفعاله، ولا يكذب لسانه بحاله، فيكون ممن وصفهم اللَّه تعالى بقوله:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 204، 205]

ونحو ما قال علي كرم اللَّه وجهه: " قصم ظهري رجلان: جاهل متنسك وعالم متهتك، فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم ينفرهم بتهتكه "،

والواعظ ما لم يكن مع مقاله فعاله لا ينتفع به وذلك أن عمله يدرك بالبصر، وعلمه مدرك بالبصيرة، وأكثر الناس أصحاب الأبصار دون البصائر، فيجب أن تكون عنايته بإظهار عمله الذي يدركه جماعتهم أكثر من عنايته بالعلم الذي لا يدركه إلا البصير منهم.

ومنزلة الواعظ من الموعوظ كمنزلة المداوي من المداوى، فكما أن الطيب إذا قال للناس: لا تأكلوا هذا فإنه سم قاتل، ثم رأوه آكلًا له عد سخرية وهزأ، كذلك الواعظ إذا أمر بما لا يعمله، وبهذا النظر قيل: يا طبيب طب نفسك، بل قد قال تعالى:

{لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3] إلى غير ذلك من الآيات،

وأيضًا فالواعظ من الموعوظ يجري مجرى الطابع من المطبوع فكما أنه محال أن ينطبع الطين بما ليس منتقشًا في الطابع، كذلك مُحَالٌ أن يحصل في نفس الموعوظ ما ليس بموجود في نفس الواعظ.

فإذا لم يكن الواعظ إلا ذا قول مجرد من الفعل لم يَتَلَقَّ عَنْهُ الموعوظُ، إلا القول دون الفعل." اهـ

 

وفي "فيض القدير" (2/ 419):

"وكان يحيى بن معاذ يقول لعلماء الدنيا:

"يا أصحاب القصور قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية وأبوابكم ظاهرية وأخفافكم جالوتية ومراكبكم قارونية وأوانيكم فرعونية ومآثمكم جاهلية ومذاهبكم شيطانية فأين المحمدية والعالمية

وأكثر علماء الزمان ضربان:

* ضرب منكب على حطام الدنيا لا يمل من جمعه وتراه شهره ودهره يتقلب في ذلك كالهج في المزابل يطير من عذرة إلى عذرة،

وقد أخذت دنياه بمجامع قلبه، ولزمه خوف الفقر وحب الإكثار، واتخذ المال عُدَّةً للنوائب لا يتنكر عليه تغلب الدنيا.

* وضرب: هم أهل تصنُّع ودهاء وخداع وتزين للمخلوقين وتملق للحكام شُحًّا على رئاستهم، يلتقطون الرخص، ويخادعون الله بالحيل،

ديدنهم: المداهنة، وساكن قلوبهم المنى، طمأنينتهم إلى الدنيا___وسكونهم إلى أسبابها. اشتغلوا بالأقوال عن الأفعال وسيكافئهم الجبار المتعال." اهـ

 

الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 155)

(الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: عَدَمُ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ)

 

وقال عبد العزيز بن محمد السلمان في "موارد الظمآن لدروس الزمان" (4/ 167)

ومِن المحالِ أن يَنْطَبِعَ في قَلْبِ مُتَعَلِّمٍ ما لَيْسَ مِن صِفَةِ مُعَلِّمِهِ.

إن القولَ المجردَ عن العملِ، لا أثرَ لَهُ، ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، لأَنَّ الْمُتَعَلِّمَ إِذَا رَأَى تَعَالِيمَ الإسلام عِنْدَ مُعَلِّمِهِ صُورَةً مُجَرَدَةً عَن العملِ، اعتقدَ بِحُكْمِ طُفُولَتِهِ وَبِجَهْلِهِ بَادِئ الأَمْرِ أن الْعِلْمَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، لا لِلْعَمَلِ به، فلم يَرْضَ نَفْسُهُ على الْعَمَلَ بِعِلْمِهِ.

وَبِهَذَا تَعْظُم مُصِيبتُهُ في مُسْتَقبلِ أمره. فَيَجِبُ أَنْ يَتَجَافَى المسْئولُونَ في مَعَاهِدِهِمْ وَمَدَارِسِهم الدِّينِيَّةِ عن الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُون، وَيُظْهِرُونَ مَا لا يُبْطِنُونَ. أُوَلئِكَ الَّذِين مَقَّتَهُمْ الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]." اهـ

 

عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي اليماني (المتوفى: 1386هـ) _رحمه الله_ في "رسالة في حقيقة التأويل" (ص: 90_91):

"الرسوخ في العلم أمر خفي، ليس هو كثرة العلم، فكم من رجل كثير العلم ليس براسخ.

قال _تعالى_:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 175، 176]

وقال _عز وجل_:

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]

وفي الحديث:

«إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان».

وقال الحسن البصري:

"العلم علمان: فعلم في القلب، فذلك___العلم النافع، وعلم في اللسان، فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم". سنن الدارمي (ج1 ص107). [(رقم: 376)]

والأحاديث والآثار في هذه كثيرة.

وقد كان عبد الملك بن مروان وأبو جعفر المنصور العباسي من كبار العلماء، وهما طاغيتان.

وكذلك الواقدي والشاذكوني ومحمد بن حميد الرازي؛ وهؤلاء رماهم أئمة الحديث بأنهم كانوا يكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمثالهم كثير. ومن العلماء من هو دون هؤلاء في العلم ولكنه معدود من الراسخين.

فالرسوخ إذن حال قلبية، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغنى:

«ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»؛

فكذلك تقول: ليس الرسوخ عن كثرة العلم، ولكن الرسوخ رسوخ الإيمان في القلب، ويوشك أن يكون هو اللب كما في قوله تعالى: {وما يتذكر إلا أولو الألباب}." اهـ

 

وقال عبد العزيز بن فيصل الراجحي _حفظه الله_ في "قمع الدجاجلة الطاعنين في معتقد أئمة الإسلام الحنابلة" (ص: 10):

"وما تَرَكَ سبيلَ خيْرٍ، إلا دعا أمته إليه، ودلها عليه. ولا سبيلَ شَرٍّ، إلا حذَّرها منه، وأبْعَدَهَا عنه.

وكان مما حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخشي على أمته منه: «كل منافق عليم اللسان»،

وأشدُّ مَا خَشِيَهُ علَيْهِمْ من الفتن والضلالِ: فتنةُ المسيح الدجال، وقال: «ما من نبي قبلي، إلا وحذر أمته من المسيح الدجال» [خ م].

ثم وصفه لهم، وعرفهم به فقال: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور» . وما ذاك إلا لعظم افتتان الناس به." اهـ

 

[تعليق]:

 

ففي "صحيح البخاري" (4/ 134) (رقم: 3337)، و"صحيح مسلم" (4/ 2248/ 101) (رقم: 2933):

قَالَ ابْنُ عُمَرَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_:

قَامَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ:

"إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ."

 

وقال عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن الراجحي _حفظه الله_ في "شرح صحيح ابن حبان" - الشاملة (4/ 20):

"وفيه: النهي عن جدال المنافق عليم اللسان،

وفي هذا الزمن المنافقون يتكلمون في الصحف والفضائيات، وهم زنادقة، يضلون الناس عن الحق، ويجادلون بالباطل ويدافعون عن السفور والمجون، ويطعنون في الأحاديث التي فيها الأمر بالحجاب، والمنافقون عندهم فصاحة وعندهم شبه، فينبغي للمسلم أن يحذرهم ويحذر منهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

133 - (11) [صحيح] ورواه أحمد من حديث عمر بن الخطاب. (5)

__________

(5) قلت: وأخرجه البزار أيضاً (1/ 97/ 168 و169)، وقال: "إسناده صالح"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (رقم - 255 - بتحقيقي).

 

وفي "المنتخب" (ص: 32) (رقم: 11) لعبد بن حميد – ت. صبحي السامرائي:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا دَيْلَمُ بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ مَيْمُونٍ الْكُرْدِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقٍ عَلِيمٍ؛ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ»

 

وفي "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 632) (رقم: 684) لمحمد بن نصر المروزي:

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي سُوَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ:

"لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِيهِمُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، سَرَّحَهُمْ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ،

ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرِي لِمَ حَبَسْتُكَ؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ «حَذَّرَنَا كُلَّ مُنَافِقٍ عَالِمِ اللِّسَانِ، وَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، وَأَرْجُو أَنْ لَا تَكُونَ مِنْهُمْ، فَافْرُغْ مِنْ صَنْعَتِكَ، وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ»

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه أحمد في "مسنده" - عالم الكتب (1/ 22 و 1/ 44) (رقم: 143 و 310)، والبزار في "مسنده" = "البحر الزخار" (1/ 434) (رقم: 305)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 632_633) (رقم: 683_685)، وأبو يعلى الموصلي في "معجمه" (ص: 268) (رقم: 334).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3/ 11) (رقم: 1013).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10 - (الترهيب من الدعوى في العلم والقرآن).

 

134 - (1) [صحيح] عن أبيّ بن كعبٍ رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

"قامَ موسى _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ خطيباً في بني إسرائيل،

فسُئِلَ: "أيُّ الناسِ أعلمُ؟"

فقال: "أنا أعلمُ."

فَعَتَبَ الله عليه إذ لم يَرُدَّ العِلْمَ إليه، فأوحى الله إليه: (إنّ عبْداً من عِبادي بـ (مَجمَعِ البحرين) هو أعلمُ منك).

قال: "يا ربِّ، كيف به؟"

فقيل له: (احمل حوتاً في مِكتلٍ، فإِذَا فَقَدْتَهُ، فهو ثَمَّ. . .)"

(فذكر الحديث في اجتماعه بالخَضِر إلى أن قال:)،

فانطلقا يمشيان على ساحلِ البَحر، ليس لهما سفينةٌ، فمرّت بهما سفينةٌ، فكلَّموهم أن يحملوهما، فعُرِفَ الخَضِرُ، فحملوهما بغير نَوْلٍ، (1) فجاء عُصفورٌ فوقعَ على حَرْفِ السفينةِ، فَنَقَر نَقْرةً أو نقرتين في البحرِ،

فقال الخَضِرُ: "يا موسى، ما نَقَصَ (2) علمي وعلمُك من علم الله إلا كنَقْرَةِ هذا العصفورِ في هذا البحر". فذكر الحديث بطوله (3).

وفي رواية:

"بينما موسى يمشي في ملأٍ من بني إسرائيلَ، إذ جاءه رجلٌ فقال له:

"هل تعلمُ أحداً أعْلَمَ منك؟"

قال موسى: "لا."

فأوحى الله إلى موسى: "بل عبدُنا الخَضِرُ (4)".

فسأل موسى السبيلَ إليهِ." الحديْثَ.

رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

__________

(1) أي: بغير أجر ولا جُعل.

(2) وفي رواية للبخاري: "ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر".

وهذه الرواية تبين المراد من رواية الكتاب، فإنّ ظاهرها غير مراد قطعاً، إذ أنّ علم الله لا يدخله نقص مطلقاً.

(3) قلت: وهو في كتابي "مختصر صحيح الإمام البخاري" (65 - التفسير /18 - سورة /3 - باب)؛ وقد تم تأليفه منذ بضع سنين، كما تم طبع المجلد الأول والثاني منه، يسّر الله نشر باقيه قريباً.

والرواية الأخرى فيه برقم (56).

(4) قال الناجي (23): "كذا وقع عند مسلم معرَّفاً؛ ووقع عند البخاري منكَّراً، وكلاهما واضح؛ وقد قررت نبوّته، وذكرت القائلين بها من المتقدمين والمتأخرين وأتْباع المذاهب الأربعة ضمن جواب حافل في (إلياس) ".

 

ترجمة ُأُبَيِّ بن كَعْب _رضي الله عنه_:

 

وقال خير الدين بن محمود الدمشقي، الشهير بـ"الزركلي" (المتوفى: 1396هـ) _رحمه الله_ في " الأعلام" (1/ 82):

أُبَي بن كَعْب (000 - 21 هـ = 642 000 م):

أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، مِنْ بني النجار، من الخزرج، أبو المنذر: صحابي أنصاري.

كان قبل الإسلام حَبْرًا من أحبار اليهود، مطلعا على الكتب القديمة، يكتب ويقرأ - على قلة العارفين بالكتابة في عصره -، ولما أسلم كان من كتاب الوحي.

وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله _صلّى الله عليه وسلم_، وكان يفتي على عهده.

وشهد مع عمر بن الخطاب وقعة الجابية، وكتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس. وأمره عثمان بجمع القرآن، فاشترك في جمعه.

وله في الصحيحين وغيرهما 164 حديثا.

وفي الحديث: (أقرأ أمتي أبي بن كعب) [ضعيف: طس].

وكان نحيفا قصيرا أبيض الرأس واللحية. مات بالمدينة." اهـ

 

نص الحديث:

 

ففي "صحيح البخاري" (1/ 35):

عن سَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ:

إِنَّ نَوْفًا البَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ؟ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ،

فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: (أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ).

قَالَ: "يَا رَبِّ، وَكَيْفَ بِهِ؟" فَقِيلَ لَهُ: (احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ)،

فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلاَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا، فَانْسَلَّ الحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبًا، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا،

فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ المَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ:

(أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ)،

قَالَ مُوسَى: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا)،

فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ مُوسَى، فَقَالَ الخَضِرُ: "وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ؟"

فَقَالَ: "أَنَا مُوسَى، فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟"

قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: "هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا"

قَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ، لاَ أَعْلَمُهُ."

قَالَ: "سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا."

فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ، لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ،

فَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ، فَقَالَ الخَضِرُ: "يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ."

فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ، فَنَزَعَهُ، فَقَالَ مُوسَى: "قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ، فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟"

قَالَ: "أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟"

قَالَ: "لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا - فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا -."

فَانْطَلَقَا، فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى: "أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟"

قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ - قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أَوْكَدُ –."

فَانْطَلَقَا، حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ،

قَالَ الخَضِرُ: بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا،

قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ " قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا»

 

صحيح البخاري (6/ 90)

فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ البَحْرِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَمَا عِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ البَحْرِ."

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري في "صحيحه" (1/ 35 و6/ 91) (رقم: 122 و 4727)، ومسلم في "صحيحه" (4/ 1847/ 170) (رقم: 2380)، والترمذي في "سننه" – ت. شاكر (5/ 309) (رقم: 3149)، والنسائي في "السنن الكبرى" (10/ 159 و 10/ 163) (رقم: 11243 و 11245)، والحميدي في "مسنده" (1/ 363) (رقم: 375)، وأحمد في "مسنده" - عالم الكتب (5/ 117) (رقم: 21114)، وابن حبان في "صحيحه" (14/ 104) (رقم: 6220)، وأبو عوانة في "المستخرج" – ط. الجامعة الإسلامية (12/ 495) (رقم: 6027)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (2/ 626) (رقم: 4094)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 294) (رقم: 220).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 803) (رقم: 4357)، و"التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" (9/ 55) (رقم: 6187).

 

من فوائد الحديث:

 

وقال محمود بن أحمد الغيتابى الحنفى، المعروف  بـ"بدر الدين العيني" (المتوفى: 855 هـ) _رحمه الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (2/ 195_196):

"بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.

* الأول: فِيهِ اسْتِحْبَاب الرحلة للْعلم.

* الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز التزود للسَّفر.

* الثَّالِث: فِيهِ فَضِيلَةُ طلبِ الْعلْمِ، وَالْأَدبُ مَعَ الْعَالم، وَحُرْمَةُ الْمَشَايِخ، وَترْكُ الإعتراضِ عَلَيْهِم وَتَأْويلُ مَا لم يفهم ظَاهِرَهُ من أَقْوَالهم وأفعالهم، وَالْوَفَاءُ بعهودهم، والاعتذارُ عِنْد الْمُخَالفَة.

* الرَّابِع: فِيهِ إِثْبَاتُ كرامات الْأَوْلِيَاء وَصِحَّةُ الْولَايَةِ.

* الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز سُؤال الطَّعَام عِنْد الْحَاجة.

* السَّادِس: فِيهِ جَوَاز الْإِجَارَة.

* السَّابِع: فِيهِ جَوَاز ركُوب الْبَحْر وَنَحْوِ ذَلِك بِغَيْر أُجْرَة برضى صَاحبه.

* الثَّامِن: فِيهِ الحكم بِالظَّاهِرِ حَتَّى يتَبَيَّن خِلَافه.

* التَّاسِع: فِيهِ أَن الْكَذِب: الْإِخْبَارُ على خلاف الْوَاقِع عمدا أَو سَهوا خلافًا للمعتزلة.

* الْعَاشِر: إِذا تَعَارَضَت مفسدتان يجوز دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، كَمَا فِي خرْق الْخَضِرِ السَّفِينَةَ لدفْع غَصْبِهَا وَذَهَابِ جُمْلَتهَا.

* الْحَادِي عشر: فِيهِ بَيَان أصل عَظِيم وَهُوَ: وجوب التَّسْلِيم لكل مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع، وَإِن كَانَ بعضه لَا تظهر حكمته للعقول وَلَا يفهمهُ أَكثر النَّاس، وَقد لَا يفهمونه كلهم: كالقدر، وَمَوْضِع الدّلَالَة قتل الْغُلَام، وخرق السَّفِينَة فَإِن___صورتيهما صُورَة الْمُنكر، وَكَانَ صَحِيحا فِي نفس الْأَمر لَهُ حِكْمَة بَيِّنَة، لَكِنَّهَا لَا تظهر لِلْخلقِ فَإِذا علمهمْ الله تَعَالَى بهَا علموها، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} (الْكَهْف: 82)

* الثَّانِي عشر: قَالَ ابْن بطال:

"وَفِيه أصل وَهُوَ: مَا تعبد الله تَعَالَى بِهِ خلقه من شَرِيعَته يجب أَن يكون حجَّة على الْعُقُولِ، وَلَا تكون الْعُقُولُ حجَّةً عَلَيْهِ، أَلا ترى أَن إِنْكَار مُوسَى _عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام_، كَانَ صَوَابا فِي الظَّاهِر، وَكَانَ غَيْرَ ملوم فِيهِ،

فَلَمَّا بيَّن الْخَضِرُ وَجه ذَلِك، صَار الصَّوَابُ الَّذِي ظهر لمُوسَى فِي إِنْكَاره خطأً، وَالْخَطَأُ الَّذِي ظهر لَهُ من فعْلِ الْخضر صَوَابا،

وَهَذَا حجَّةٌ قَاطِعَة فِي أَنه يجب التَّسْلِيم لله تَعَالَى فِي دينه وَلِرَسُولِهِ فِي سنته، واتهام الْعُقُول إِذا قصرت عَن إِدْرَاك وَجه الْحِكْمَة فِيهِ.

الثَّالِث عشر: فِيهِ أَن قَوْله: {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} (الْكَهْف: 82) يدل على أَنه فعله بِالْوَحْي، فَلَا يجوز لأحد أَن يقتل نفسا لما يُتَوَقَّع وُقُوعه مِنْهَا، لِأَن الْحُدُود لَا تجب إِلَّا بعد الْوُقُوع،

وَكَذَا لَا يقطع على أحد قبل بُلُوغه، لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن الْغَيْب، وَكَذَا الْإِخْبَار عَن أَخذ الْملك السَّفِينَة، وَعَن اسْتِخْرَاج الغلامين الْكَنْز، لِأَن هَذَا كُله لَا يدْرك إلاَّ بِالْوَحْي.

الرَّابِع عشر: فِيهِ حجَّة لمن قَالَ بنبوة الْخضر _عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام_.

الْخَامِس عشر: قَالَ القَاضِي: فِيهِ جَوَاز إِفْسَاد بعض المَال لإِصْلَاح بَاقِيه، وخصاء الْأَنْعَام، وَقطع بعض آذانها لِتَمِيْزَ." اهـ

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (1/ 219):

"قَوْلُهُ (كَذَبَ عَدُوُّ الله)،

قَالَ ابن التِّين:

لم يُرِدْ ابْنُ عَبَّاسٍ إِخْرَاجَ نَوْفٍ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ وَلَكِنَّ قُلُوبَ الْعُلَمَاءِ تَنْفِرُ إِذَا سَمِعَتْ غَيْرَ الْحَقِّ فَيُطْلِقُونَ أَمْثَالَ هَذَا الْكَلَامِ لِقَصْدِ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ

قُلْتُ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون ابنُ عَبَّاسٍ اتَّهَمَ نَوْفًا فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ فِي حَقِّ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ تَوَارُدِهِمَا عَلَيْهَا.

وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ: أَنَّ لِلْعَالِمِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ، فَسَمِعَ غَيْرَهُ يَذْكُرُ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنْ يُكَذِّبَهُ. وَنَظِيرُهُ: قَوْلُهُ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ أَيْ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ." اهـ

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (1/ 219):

"قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ)

فِي اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ: دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُتْقِنِ عِنْدَهُ حَيْثُ يُطْلِقُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامُ فِي حَقِّ مَنْ خَالَفَهُ." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 219)

قَوْلُهُ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ بَلْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَلَزِمَ تَفْضِيلُ الْعَالِي عَلَى الْأَعْلَى وَهُوَ بَاطِلٌ مِنَ الْقَوْل...

وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ تَقْيِيدُ الْأَعْلَمِيَّةِ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ أَيْ مِمَّنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى مُرْسَلًا إِلَى الْخَضِرِ وَإِذًا فَلَا نَقْصَ بِهِ إِذَا كَانَ الْخَضِرُ أَعْلَمَ___مِنْهُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ وَيَنْحَلُّ بِهَذَا التَّقْرِيرِ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمِنْ أَوْضَحِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 220)

قَوْلُهُ (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)،

وَيَنْبَغِي اعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَبِيًّا لِئَلَّا يَتَذَرَّعُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ من النَّبِي حاشا وكلا،

وَتعقب بن الْمُنِير على بن بَطَّالٍ إِيرَادَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الدَّعْوَى فِي الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى قَوْلِ الْعَالِمِ (لَا أَدْرِي) بِأَنَّ سِيَاقَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ لَائِقٍ وَهُوَ كَمَا قَالَ _رَحِمَهُ اللَّهُ_، قَالَ:
"وَلَيْسَ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَا أَعْلَمُ كَقَوْلِ آحَادِ النَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَا نَتِيجَةُ قَوْلِهِ كَنَتِيجَةِ قَوْلِهِمْ،

فَإِنَّ نَتِيجَةَ قَوْلِهِمُ الْعُجْبُ وَالْكِبْرُ، وَنَتِيجَةَ قَوْلِهِ الْمَزِيدُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالْحِرْصُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ،

وَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِالْعَقْلِ عَلَى الشَّرْعِ خَطَأً، لِأَنَّ مُوسَى إِنَّمَا اعْتَرَضَ بِظَاهِرِ الشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الِاعْتِرَاضِ بِالشَّرْعِ عَلَى مَا لَا يَسُوغُ فِيه،ِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ." اهـ

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (1/ 220):

"قَوْلُهُ (أَنَّى - أَيْ كَيْفَ - بِأَرْضِكِ السَّلَامُ)،

وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي التَّفْسِيرِ: (هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلَامٍ أَوْ مِنْ أَيْنَ)، كَمَا فِي قَوْله _تَعَالَى_: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]،

وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ فِيهَا.

وَكَأَنَّهَا كَانَتْ بِلَادَ كُفْرٍ أَوْ كَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ بِغَيْرِ السَّلَامِ.

وَفِيهِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إِذْ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ لَعَرَفَ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ." اهـ

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (1/ 220):

"قَالَ [أبو العباس القرطبي]:

وَفِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ مِنَ الْفَوَائِدِ:

* أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ مِمَّا يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي أَفْعَالِهِ وَلَا مُعَارَضَةَ لِأَحْكَامِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ فَإِنَّ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِأَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ قَاصِرٌ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى حُكْمِهِ___لِمَ وَلَا كَيْفَ كَمَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فِي وجوده أَيْن وَحَيْثُ،

وَإِن الْعقل لَا يحسن وَلَا يقبح وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الشَّرْعِ فَمَا حَسَّنَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ وَمَا قَبَّحَهُ بِالذَّمِّ فَهُوَ قَبِيح.

وأن الله _تَعَالَى_ فِيمَا يَقْضِيهِ حُكْمًا وَأَسْرَارًا فِي مَصَالِحَ خَفِيَّةٍ اعْتَبَرَهَا كُلَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ وَلَا حُكْمِ عَقْلٍ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، بَلْ بِحَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَنَافِذِ حُكْمِهِ،

فَمَا أَطْلَعَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ، عُرِفَ. وَإِلَّا، فَالْعَقْلُ عِنْدَهُ وَاقِفٌ، فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، فَإِنَّ مَآلَ ذَلِكَ إِلَى الخيبة."

قَالَ: ولننبه هُنَا على مغالطتين:

الْأُولَى: وَقَعَ لِبَعْضِ الْجَهَلَةِ أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى تَمَسُّكًا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِمَّنْ قَصَرَ نَظَرُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يَنْظُرْ فِيمَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ فِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ داخلون تَحت شَرِيعَته، ومخاطبون بِحُكْمِ نُبُوَّتِهِ حَتَّى عِيسَى.

وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ:

قَوْلُهُ _تَعَالَى_: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]،

وَسَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى مَا فِيهِ كِفَايَةٌ."

قَالَ:

"وَالْخَضِرُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا، فَلَيْسَ بِرَسُولٍ بِاتِّفَاقٍ. وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنْ نَبِيٍّ لَيْسَ بِرَسُولٍ. وَلَوْ تَنَزَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ، فَرِسَالَةُ مُوسَى أَعْظَمُ، وَأُمَّتُهُ أَكْثَرُ، فَهُوَ أَفْضَلُ. وَغَايَةُ الْخَضِرِ: أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمُوسَى أَفْضَلُهُمْ،

وَإِنْ قُلْنَا: (إِنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، بَلْ وَلِيٌّ)، فَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا.

وَالصَّائِرُ إِلَى خِلَافِهِ كَافِرٌ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ."

قَالَ:

وَإِنَّمَا كَانَتْ قِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى امْتِحَانًا لِمُوسَى لِيَعْتَبِرَ.

الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقَةٍ تَسْتَلْزِمُ هَدْمَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَقَالُوا: (إِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْعَامَّةَ تَخْتَصُّ بِالْعَامَّةِ، وَالْأَغْبِيَاءِ. وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَالْخَوَاصُّ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى تِلْكَ النُّصُوصِ، بَلْ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْهُمْ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى خَوَاطِرِهِمْ لِصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ الْأَكْدَارِ وَخُلُوِّهَا عَنِ الْأَغْيَارِ، فَتَنْجَلِي لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ، وَيَعْلَمُونَ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَضِرِ، فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِمَا يَنْجَلِي لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَإِنْ أَفْتَوْكَ."

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:

وَهَذَا الْقَوْلُ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ، لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا عُلِمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ، وَأَنْفَذَ كَلِمَتَهُ بِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ السُّفَرَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ الْمُبَيِّنِينَ لِشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ _تَعَالَى_:

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]،

وَقَالَ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} [الأنعام: 124]

وَأمر بطاعتهم فِي كل مَا جاؤوا بِهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِمْ، وَالتَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرُوا بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ الْهُدَى،

وَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا أُخْرَى يَعْرِفُ بِهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ غَيْرَ الطُّرُقِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الرَّسُولِ فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ."

قَالَ:

وَهِيَ دَعْوَى تَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ نُبُوَّةٍ بَعْدَ نَبِيِّنَا لِأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، فقد أثبت___لِنَفْسِهِ خَاصَّةً النُّبُوَّةَ، كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_:

(إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي).[2]

قَالَ:

وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: (أَنَا لَا آخُذُ عَنِ الْمَوْتَى، وَإِنَّمَا آخُذُ عَنِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)، وَكَذَا قَالَ آخَرُ: (أَنَا آخُذُ عَنْ قَلْبِي عَنْ رَبِّي)،

وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الشَّرَائِع،

نسْأَل اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ.

وَقَالَ غَيْرُهُ:

مَنِ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ مِنْ خَفَايَا الْأُمُورِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةِ وَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، فَقَدْ ضَلَّ، وَلَيْسَ مَا تَمَسَّكَ بِهِ صَحِيحًا، فَإِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَيْسَ فِي شَيْءٌ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ الشَّرْعَ، فَإِنَّ نَقْضَ لَوْحٍ مِنَ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ لِدَفْعِ الظَّالِمِ عَنْ غَصْبِهَا، ثُمَّ إِذَا تَرَكَهَا أُعِيدَ اللَّوْحُ جَائِزٌ شَرْعًا وَعَقْلًا،

وَلَكِنَّ مُبَادَرَةَ مُوسَى بِالْإِنْكَارِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: (فَإِذَا جَاءَ الَّذِي يُسَخِّرُهَا، فَوَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً تَجَاوَزَهَا، فَأَصْلَحَهَا)،

* فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ وُجُوبُ التَّأَنِّي عَنِ الْإِنْكَارِ فِي الْمُحْتَمَلَاتِ.

وَأَمَّا قَتْلُهُ الْغُلَامَ، فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ.

وَأَمَّا إِقَامَةُ الْجِدَارِ، فَمِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ

 

وقال عياض بن موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي (المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 366):

"وفى حديث الخضر وموسى: جوازُ إخبارِ الرجلِ عن نفسه بالفضْلِ والعلْمِ، إذا احتاج إلى ذلك لمعنى دينى، أو لمصلحة دنيوية، لا ليقصد به الفخر والكبر، كما قال _عليه الصلاة والسلام_: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر." [ت ق][3]، وكما قال: " أنا أتقاكم لله، وأعلمكم بما اتقى، وأشدكم له خشية " [خ م]." اهـ

 

وقال عياض بن موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي (المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 367_369):

"وسؤال موسى ربه لقيا الخضر، استدل به أهل العلم على الرحلة فى طلب العلم، وازدياد العالم لعلمه منه، وفيه فضل طلب العلم والتزيد منه، ومعرفة حق من عنده زيادة علم.

وفى تزوده بالحوت، جواز اتخاذ الزاد فى السفر، وكان له فى طى ذلك آية وعلامة للقاء (3) الخضر.

وفى شرط الخضر عليه ألا يسأله عن شىء حتى يحدث له منه ذكراً، الأدب مع العالم وترك سؤاله؛ إذا نهاه عنه لسبب يقتضيه، وأخذ العفو منه، والوقوف عند حده.

وفى اعتذار موسى له بالنسيان فى الأولى والتزامه له فى الثانية إن سأله ثالثة فراق، دليل على لزوم الوقوف عند حد العلماء، وترك الاعتراض على المشايخ، ولزوم الأدب معهم، والتسليم لهم، لاسيما إذا حققوا قصورهم عن معرفة ما عندهم، كما كان حال موسى من عدم علم ما علمه الخضر من ذلك.

وفيه حرص موسى على العلم، وأن حرصه على ذلك ومحبته له وتعجيل فائدته أوجب تبيانه لشرط الخضر فى ترك السؤال، ولذلك قال - عليه السلام - فى الحديث: " وددت أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أخبارهما ".

وفى قول الخضر لموسى: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: احتج به مشايخنا على أن الاستطاعة لا تتقدم (4) الفعل، خلافاً للقدرية، وهو مما يحتج به من قال بثبوته، أو من يقول بالكرامات للأولياء وصدق فراستهم، لإخباره عن حاله من قلة الصبر. وكان كذلك حين قال له: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، ومثله قوله فى الحائط وكان مائلاً فأقامه بيده، وأن تحته كنز اليتيمين هذا فأقامه.

وفى إعلامه بأن وراء السفينة ملكاً يأخذ كل سفينة غصباً، وما أخبر من حال الغلام___وقصة أبويه، وكله مما لا يعلمه إلا نبى أو ولى صفى بوحى من الله، أو إلهام وبحديث ملك.[4]

وفى فراقهما بعد ثلاث قصص، حجةٌ على أن ثلاثة مجالس أو ثلاث مقالات أو ثلاثة أيام، أو ثلاثة آجال، فى الاعتذارات، والانتظار، والتلوم، والإحسار، والعهد وغير ذلك منها فى ضرب الأجل،

وكذلك فى استتابة المرتدين، وتكرار الخصومات مع الوكيل، واجتناب المضرات وأصل الخيار عند بعض العلماء، وإنذار حيات البيوت، والاستئذان، وتشميت العاطس، وأمد المهاجرة، وإقامة المسافر مما جاء منه فى كتاب الله تعالى، وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وارتضاه أئمة الفقهاء لمصالح الأمة.

* وفى خبرهما: جواز الاستطعام والسؤال عند الحاجة، والاستئجار على البناء، وأكل مثل ذلك لقوله: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]، وجوازُ استئجارِ السفُنِ لقوله: (أدخلونا بغير نول)، فدل على جواز النول.[5]

* وفيه: إكرام الفاضل، والعالم وخدمته، وجواز محاشاته مما يلزم غيره، وترفيهه عما لا يرق به غيره.

* وفيه الحكم بالظاهر فى الأمور حتى يتبين خلافها؛ لقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74].

* وفيه: إنكارُ المنكرِ والشدة فيه، والغلظة على فاعله؛ لقوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } [الكهف: 74].

* وفيه: استقباحُ الإساءةِ لِلْمُحْسِنِ؛ لقوله فى أصحاب السفينة إذ خرقها: " حملونا بغير نول ".___

* وإنكار مكافأة المسلمين بالإحسان فى بعض الأمور، لاسيما عند الحاجة، وأن المعروف إنما يجب أن يوضع عند العلة لقوله: "قوم أتيناهم، فلم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجراً ".

وفى قول الخضر أولاً: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} [الكهف: 72]، وفى الثانية: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف: 75]، وفى الثالثة: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] لِيْنُ الكلمةِ، والإغضاءُ للمتعلِّمِ أولاً، وإن خالفه واعترض، وكذلك الصفح عن ذى المظلمة ممن لم يعرف منه قبل، فإن عاد، زجر وأغلظ له القول، وهو كقوله له فى الثانية: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف: 75]،

قال فى الحديث: "وهذه أشد من الأولى"، فإن عاد الثالثة، عُوْقِبَ بالهجر والإبعاد أو غيره من العقاب." اهـ

 

وقال عياض بن موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي (المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 371_372):

"وقوله: "فقال - يعنى موسى -: "عليكم السلام."

فيه: تسليم الماشى والمجتاز على المقيم، والقاعد والمضطجع. ورد الخضر عليه ثم قال: " أنّى بأرضك السلام؟!"،

أى: من أين يأتى، بمعنى حيث، وكيف، وأين ومتى.

وهذا يدل أن السلام لم يكن عندهم معروفاً إلا فى خاصة الأنبياء والأولياء، أو كان موضعَ لُقْيَاهُمْ ببلاد___الكفر ومن لا يعرف السلام." اهـ

 

وقال عياض بن موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي (المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 372):

"قيل: وفى خرقه السفينة مخافة أخذ الغاصب لها: حجةٌ فى النظر فى المصالح للخلق فى أخف الشرين، والإغضاء على بعض المناكر مخافة أن يتولد من تغييرها ما هو أشد وأكبر، وجواز فساد بعض المال لصلاح بقيته.

وفيه: خصاء بعض الأنعام لسمنها وقطع بعض آذانها لتتميز. وفى قتل الغلام دليل على مراعاة الذرائع وقطع أسباب الشر." اهـ

 

وقال عياض بن موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي (المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 373):

"* وقوله: {غُلامًا فَقَتَلَهُ}: دليل على أنه كان غير بالغ.

قال أهل اللغة: الغلام: اسم للمولود من حين يولد إلى أن يبلغ، فينقطع عنه اسم الغلام،

وهذا يَرُدُّ على من ذكر أن الغلام صاحِبُ الْخَضِرِ كان بالغاً، واحتج بقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ}؛ إذ لا يقتص إلا من بالغ. ولا حجة له فى ذلك؛ إذ لا يعلم كيف كان شرعهم فى ذلك، ولعله كان عموماً فى كل نفس، بل الظاهر أن قوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} تنبيه على إنكار قتله لمن لا يجب قتله عنده إلا للقصاص وحده. واحتج - أيضاً - قائل ذلك بقوله: " وكان كافراً " فى قراءة من قرأ كذلك، وِلا حجة فيه؛ إذ لم يثبت فى المصحف، ولأنه سماه بمآل أمره. وفى قوله: {بِغَيْرِ نفْسٍ} دليل على القصاص، وأنه كان فى شرع من قبلنا مشروعًا." اهـ

 

وقال عياض بن موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي (المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 374_375):

وقوله: "وكان الغلام طبع يوم طبع كافراً."

فيه: حجة بينةٌ لأهل السنة ومذهبِهِمْ فى الطبْعِ والديْنِ والأكنة والأغشية والحجب والسد، واشتباه هذه الألفاظ الواردة___فى الشرع من أفعال الله تعالى بقلوب أهل الكفر والضلال.

ومعنى ذلك عندهم: خلق الله فيها ضد الإيمان وضد الهدى، وهذا على أصلهم فى أن العبد لا قدرة له إلا ما أراده الله وقدره عليه وخلقه له، خلافاً للمعتزلة والقدرية القائلين بفعل العبد من قبل نفسه، وقدرته على الهدى والضلال، والخير والشر، والإيمان والكفر.

وأن معنى هذه الألفاظ تسمية الله لأصحابها وحكمه عليهم بذلك، أو خلقه تعالى على مذهب آخرين منهم علامة لذلك فى قلوبهم، أو كتبه كتابة بذلك فيها تعلم مها الملائكة الفرق بين المؤمن والكافر، أو تيسير أسباب الكفر والضلال المفضية لما قدر عليه من ذلك عند آخرين، أو خلقه ذلك عند المعتزلة فى الكفار بعد كفرهم؛ عقوبة لهم على ما ارتكبوه من كفرهم، ومنعهم من الرجوع إلى الإيمان بعده، ويخرجون عندهم عن أن يؤمروا بالإيمان أو ينهوا عن الكفر، وهذا الهوس لا ينجيهم، ولا يخلصهم من نقض أصلهم فى التعديل والتجويز ومخالفة مذهبهم فيه الذى بنوا عليه ضلالتهم.

والحق الذى لا امتراء فيه أن الله يفعل ما شاء كما فى مبتدأ الذرء: " هؤلاء للجنة ولا أبالى، وهؤلاء للنار ولا أبالى " [ضعيف: بز][6]

فالذى قضى أنهم للنار طبع وختم على قلوبهم وغشاها وأكنها، وجعل من بين أيديها سدًا ومن خلفها سدًا وحجابًا مستوراً، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقراً، وفى قلوبهم مرضاً؛ ليتم سابقته فيهم وتمضى كلمة___قضاء عليهم، لاراد لحكمه ولا معقب لقضائه، سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله." اهـ

 

وقال عياض بن موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي (المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 377_378):

"وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رحمة الله علينا وعلى أخي موسى)،

وقوله: وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه: (رحمة الله علينا وعلى أخى فلان)،

فيه: جواز بداية الإنسان بنفسه فى الأدعية وأشباهها، بخلاف ما يكون من أمور الدنيا، فإن تأخير الإنسان فيه نفسه وتقديم اسم غيره أدب.__

واختلف السلف فى البداية بعنوان الكتاب، فذهب كثير منهم إلى تقديم الكاتب اسمه على اسم المكتوب إليه ما كان. وذهب آخرون إلى تقديم اسم المخاطب المكتوب إليه، إلا مثل الأمير إذا كتب لمن دونه، والأب لابنه أو عبده، وما أشبه هذا." اهـ

 

وقال عياض بن موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي (المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 378):

"قال بعض العلماء: وفى قصة موسى والخضر أصل من أصول الشريعة عظيم، فى أنه لا حجة للعقول عليها، وأن لله أسرار فيها يطلع على بعضها، ويخفى ما شاء منها، وحكماً هو أعلم بمراده بها، فلا يجب الاعتراض بالعقول على ما لا يفهم منها، ولا ردها كما فعل أهل البدع؛ بل يجب التسليم لما صح وثبت من ذلك.

وفيه: أنه لا تحسن العقول ولا تقبح؛ وإنما ذلك للشرع، ألا ترى إلى ظهور قبع قتل الغلام، وخرق السفينة فى الظاهر؛

ولهذا اشتد نكير موسى لذلك، فلما أطلعه الخضر على سر ذلك ومراد الله فيه، وأن ذلك لم يقضه عن أمره، بان له وجه الحكم فيه، وكل ذلك محنة من الله وابتلاء لعباده؛ ليميز الخبيث من الطيب، وليبلو إسرارهم.

وفى إخباره عن حالة السفينة لو لم تخرق من غصب الملك لها، وحالة الغلام لو لم يقتل وكبر، من إرهاق أبويه طغياناً وكفراً، دليل على أن مذهب أهل الحق فى علم الله بما لا يكون.

وفى جملة هذه القصة: علامات كثيرة وآيات بينة للأنبياء والأولياء، وخرق العادة لهم، لاسيما على من لا يقول بنبوة الخضر، ويرى أنه ولى من أولياء الله وصفى من أصفيائه." اهـ

 

وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الوَلَّوِي المشهور بـ"الإثيوبي" (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (38/ 260_274):

"في فوائده:

1 - (منها): بيان استحباب الرحلة للعلم.

2 - (ومنها): جواز التزود للسفر.

3 - (ومنها): بيان فضيلة طلب العلم، والأدب مع العالِم، وحرمة المشايخ، وتَرْك الاعتراض عليهم، وتأويل ما لم يُفهم ظاهره من أقوالهم، وأفعالهم، والوفاء بعهودهم، والاعتذار عند المخالفة.

قال الجامع _عفا الله عنه_:

هكذا قال في "العمدة"، وأطلق عدم الإنكار على المشايخ، وهذا غير مقبول، بل ذلك مقيَّد في المحتمَلات، وما يَقبل التأويل،

وأما منهيّات الشرع الظاهرة، فلا يسع الطالب أن يسكت عليها، بل يُنكرها، لكن بلطف، واستفسار، لا بعنف، واستهتار؛ حفظًا لمنصب العلماء،

فتفطّن، واستيقظ، فإن هذا مما زلّت به أقدام كثير ممن يُنسب إلى العبادة___والزهد، بل مما نقرؤه في كتب المتصوّفين المتأخّرين أنهم يقولون:

(إن من شَرْط الطريقة أن يكون المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وأن لا يُنْكِر على شيخه شيئًا يراه منه، ولو كان من المنكَرات الشرعيّة، فإنه إنْ فَعَل ذلك انقطع عنه المدد من شيخه).

وهذا انسلاخ عن الشريعة، وخروج عن حدود الله تعالى، فإن إنكار المنكر شعبة من شُعَب الإيمان،

فقد أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -:

"من رأى منكم منكرًا، فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، والله تعالى أعلم.

4 - (ومنها): إثبات كرامات الأولياء، وصحة الولاية.

5 - (ومنها): جواز سؤال الطعام عند الحاجة.

6 - (ومنها): جواز الإجارة.

7 - (ومنها): جواز ركوب السفينة، ونحوها بغير أجرة برضى صاحبها.

8 - (ومنها): فيه الحكم بالظاهر، حتى يتبيّن خلافه.

9 - (ومنها): أن الكذب هو الإخبار على خلاف الواقع عمدًا أو سهوًا، خلافًا للمعتزلة.

10 - (ومنها): أنه إذا تعارضت مفسدتان يجوز دَفْع أعْظَمِهما بارتكاب أخفّهما، كما في خَرْق الخضر السفينة؟ لِدَفْع غَصْبها، وذهاب جملتها.

11 - (ومنها): بيان أصل عظيم، وهو وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول، ولا يفهمه أكثر الناس، وقد لا يفهمونه كلهم؛ كالقَدَر، وموضع الدلالة: قتل الغلام، وخرق السفينة، فإنّ صورتيهما صورة المنكر، وكان صحيحاً في نفس الأمر، له حكمة بيّنة، لكنها لا تظهر للخلق، فإذا عفمهم الله تعالى بها عَلِموها، ولهذا قال الخضرعليه السلام: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] (1).

12 - (ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: وفيه أصل مهمّ، وهو ما تعبّد الله___تعالى به خلقه من شريعته يجب أن يكون حجةً على العقول، ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى عليه السلام كان صوابًا في الظاهر، وكان غير ملوم فيه، فلما بَيَّن الخضر وجه ذلك صار الصواب الذي ظهر لموسى في إنكاره خطأً، والخطأ الذي ظهر له من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجة قاطعة

في أنه يجب التسليم لله تعالى في دينه، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- في سُنَّته، واتّهام العقول، إذا قَصَرت عن إدراك وجه الحكمة فيه. انتهى (1).

13 - (ومنها): أن قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يدلّ على أنه فَعَله بالوحي، فلا يجوز لأحد أن يقتل نفساً لِمَا يتوقع وقوعه منها؛ لأن الحدود لا تجب إلا بعد الوقوع، وكذا لا يُقطع على أحد قبل بلوغه؛ لأنه إخبار عن الغيب، وكذا الإخبار عن أخذ الملِك السفينة، وعن استخراج الغلامين الكنز، لأن هذا كله لا يُدرَك إلا بالوحي.

14 - (ومنها): أن الحديث جليل واضح، وحجة ظاهرة لنبوة الخضر عليه السلام، فقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] الآية أدلّ دليل، على ذلك، فتأمله بالإنصاف.

15 - (ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: فيه جواز إفساد بعض المال لإصلاح باقيه، وخصاء الأنعام، وقطع بعض آذانها؛ لِتُمَيَّز (2).

16 - (ومنها): بيان أن الله تعالى يفعل في مُلكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء، مما ينفع، أو يضرّ، فلا مدخل للعقل في أفعاله، ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضا والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر، فلا يتوجه على حُكمه لِمَ، ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث، وإن العقل لا يحسِّن، ولا يقبّح، وأن ذلك راجع إلى الشرع، فما حسَّنه بالثناء عليه فهو حَسَن، وما قبَّحه بالذمّ فهو قبيح، قاله في "الفتح" نقلًا عن القرطبيّ (3).

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "كما لا يتوجه في وجوده أين" عجيب من___الحافظ كيف أقرّ القرطبيّ في قوله هذا، وقد علم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للجارية:

"أين الله؟ قالت: في السماء"؟ وقد أجاد سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في تعليقه على "الفتح"، حيث قال ردًّا على هذا الإنكار: الصواب عند أهل السُّنَّة وصْف الله سبحانه وتعالى بأنه في جهة العلوّ، وأنه فوق العرش، كما دلّت على ذلك نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويجوز عند أهل السُّنَّة السؤال عنه بأين، كما في "صحيح مسلم" أن النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ قال للجارية: "أين الله؟" قالت: "في السماء ... " الحديث. انتهى كلام الشيخ ابن باز، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقوله: "وإن العقل لا يحسِّن، ولا يقبّح" فيه نظر أيضًا؛ لأن الصحيح من مذهب أهل السُّنَّة أن العقل يحسّن، ويقبّح، وقد حقّقت ذلك في "التحفة المرضيّة" في الأصول تحقيقًا مستفيضًا، فراجعها (1)،

وقال الشيخ ابن باز _رحمه الله_ على كلام الحافظ المذكور:

"هذا قول بعض أهل السُّنَّة، وذهب بعض المحقّقين منهم إلى أن العقل يُحسّن وبُقبّح؛ لِمَا فَطَر الله عليه العباد من معرفة الحَسَن والقبيح، وقد جاءت الشرائع الإلهيّة تأمر بالحسن، وتنهى عن القبيح، ولكن لا يترتّب الثواب والعقاب على ذلك إلا بعد بلوغ الشرع، كما حقّق ذلك العلامة ابن القيّم رحمه الله في "مفتاح دار السعادة"، وهذا هو الصواب، والله أعلم. انتهى كلام الشيخ ابن باز _رحمه الله_، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

17 - (ومنها): بيان أن الة تعالى فيما يقضيه حِكَمأ وأسرارًا في مصالحَ خفية، اعتبرها، كلُّ ذلك بمشيئته، وإرادته، من غير وجوب عليه، ولا حُكْم عقل يتوجه إليه، بل بحَسَب ما سبق في علمه، ونافذ حُكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عُرِفَ، وإلا فالعقل عنده واقف، فليحذر المرء من الاعتراض والإنكار، فإن مال ذلك إلى الخيبة وعذاب النار- أعاذنا الله منها برحمته.

قال القرطبيّ رحمه الله: ولننبه هنا على مغلطتين:___

[المغلطة الأولى]: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكًا بهذه القصة، وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قَصَر نظره على هذه القصة، ولم ينظر فيما خص الله به موسى عله السلام من الرسالة، وسماع كلام الله تعالى (1)، وإعطائه التوراة، فيها عِلْم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطَبون بحُكم نبوته، حتى عيسى عليه السلام، وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ألا ترى أن الله تعالى قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} الآية [المائدة: 44]،

والإنجيل، وإن كان هدى فليس فيه من الأحكام إلا قليل، ولم يجىء عيسى عليه السلام ناسخًا لأحكام التوراة، بل معلّمًا لها، ومبيّنًا أحكامها، كما قال تعالى حكاية عنه:

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} الآية [آل عمران: 48]، وعلى هذا فهو أَمَامَهُمْ، وإِمامهم، وأعلمهم، وأفضلهم، ويكفي من ذلك قوله تعالى:

{قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} [الأعر اف: 144].

وأن موسى _عليه السلام_ من أولي العزم من الرسل، وأن أول من ينشق عنه القبر نبيّنا _صلى الله عليه وسلم_، فيجد موسى-صلى الله عليه وسلم- متعلقًا بالعرش، وأنه ليس في محشر يوم القيامة أكثر من أمَّته بعد أمَّة نبيّنًا -صلى الله عليه وسلم-، إلى غير ذلك من فضائله.

وأما الخضر، وإن كان نبيًّا فليس برسولٍ باتفاق، والرسول أفضل من نبيِّ ليس برسول، ولو تنزّلنا على أنه رسول، فرسالة موسى أعظم، وأمّته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل، وموسى أفضلهم، وإن قلنا: إن الخضر ليس بنبيّ، بل وليّ، فالنبي أفضل من الوليّ، وهو أمر مقطوع به عقلًا ونقلًا، والصائر إلى خلافه كافرٌ؛ لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة.____

قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانًا لموسى لِيَعْتَبر، كما قد ابتُلي غيره من الأنبياء بأنواع من المحن والبلاء.

[المغلطة الثانية]: ذهب قوم من زنادقة الباطنيّة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة، فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة، والأغبياء، وأما الأولياء والخواصّ فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويُحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم؛ لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوّها عن الأغيار، فتنجلي لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، وَيعْلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتَّفَق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم، عما كان عند موسى، وقد جاء فيما ينقلون: "استفت قلبك، وإن أفتوك، وأفتوك". [حسن: حم][7]

قال القرطبيّ: وهذا القول زندقةٌ، وكفر يُقتل قائله، ولا يستتاب؛ لأنه إنكار لِمَا عُلِم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تُعْلم الا بواسطة رسله، السفراء بينه وبين خلقه المبيِّنين لشرائعه وأحكامه، كما قال الله تعالى:

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]،

وقال:

{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الآية [الأنعام: 124]،

وقال تعالى:

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية [ألبقرة: 213]،

وأمَر بطاعتهم في كل ما جاؤوا به، وأخبر أن الهدى في طاعتهم، والاقتداء بهم، في غير موضع من كتابه، وعلى ألسنة رسله؛

كقوله _تعالى_:

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]،

وكقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} النساء: 64]،

وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]،

وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ} [النور: 54]،

وقال -صلى الله عليه وسلم-:___

"تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله، وسُنَّة نبيه." [صحيح: ما][8]

ومثل هذا لا يُحصَى كثرة.

وعلى الجملة: فقد حصل العلم القطعيّ، واليقين الضروريّ، وإجماع السَّلف، والخلف: على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يُعرف شيء منها إلا من جهة الرسل الكرام، فمن قال: إن هناك طريقًا آخر يُعرف بها أمره ونهيه غير الرسل، بحيث يُستغنى بها عن الرسل، فهو كافر، يُقتل، ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب،

ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده، ولا رسول، وبيان ذلك أن من قال: إنه يأخذ عن قلبه، وإن ما وقع فيه هو حُكم الله، وإنه يعمل بمقتضاه، وإنه لا يحتاج في ذلك إلى كتاب، ولا سُنَّة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإنَّ هذا نحو مما قاله رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:

"إن روح القدس نَفَث في رُوعي".

ولقد سمعنا عن بعض الممخرقين المتظاهرين بالدِّين، أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى؛ وإنَّما آخذ عن الحيّ الذي لا يموت، وإنما أروي عن قلبي عن ربي، ومثل هذا كثير، فنسأل الله الهداية، والعصمة، وسلوك طريق سلف هذه الأمَّة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (2)، وهوتحقيق نفيسٌ، وبحث أنيس، والله تعالى أعلم.

وقال غيره: مَن استدلّ بقصة الخضر على أن الوليّ يجوز أن يطّلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة، ويجوز له فِعله، فقد ضلّ، وليس ما تمسّك به صحيحًا، فإن الذي فَعَله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع،

فإنّ نقْض لوح من ألواح السفينة لِدَفْع الظالم عن غَصْبها، ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعًا وعقلًا، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحَسَب الظاهر، وقد وقع ذلك واضحًا في رواية أبي إسحاق التي أخرجها مسلم، ولفظه: "فاذا جاء___الذي يُسَخِّرها، فوجدها منخرقة تجاوزها، فأصلحها"،

فيستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في المحتمِلات، وأما قَتْله الغلام، فلعله كان في تلك الشريعة، وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان (1)، والله أعلم.

18 - (ومنها): ما أورده في "العمدة" على طريقة السؤال والجواب،

فقال:

(منها): ما قيل في قوله: "فإني نسيت الحوت": كيف نسي ذلك، ومثله لا يُنسى؛ لكونه أمارة على المطلوب، ولأن ثمة معجزتين: حياة السمكة المملوحة الماكول منها على المشهور، وانتصاب الماء مثل الطاق، ونفوذها في مثل السرب منه؟ .

أجيب: بأنه قد شغله الشيطان بوسواسه، والتعوّد بمشاهدة أمثاله عند موسى عليه السلام من العجائب، والاستئناسُ بأخواته موجب لقلة الاهتمام به.

(ومنها): ما قيل في قوله: "على أن تعلّمني مما علمت رشدًا": أمَا دلّت حاجته إلى التعلم من آخَر في عَهْده، أنه كما قيل: موسى بن ميشا، لا موسى بن عمران؛ لأن النبي يجب أن يكون أعلم أهل زمانه، وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟ .

أجيب: لا غضاضة بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ مثله، وإنما يَغُض منه أن يأخذ ممن دونه، وقال الكرمانيّ: هذا الجواب لا يتم على تقدير ولايته،

قال العينيّ: هذا الجواب للزمخشريّ وهو قائل بنبوته، كما ذهب إليه الجمهور، بل هو رسول، وينبغي اعتقاد ذلك؛ لئلا يَتوسل به أهل الزيغ والفساد من المبتدعة الملاحدة في دعواهم أن الوليّ أفضل من النبيّ، نعوذ بالله تعالى من هذه البدعة.

(ومنها): ما قيل في قوله: "فحملوهما": هم ثلاثة، فقال: كلّموهم بلفظة الجمع، فلم قال: "فحملوهما" بالتثنية؟ .

أجيب: بأن يوشع كان تابعًا، فاكتُفِي بذكر الأصل عن الفرع.

(ومنها): ما قيل: إن نسبة النقرة إلى البحر نسبة المتناهي إلى المتناهي،___ونسبة عِلمهما إلى علم الله نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، وللنقرة إلى البحر في الجملة نسبة ما، بخلاف عِلْمهما فإنه لا نسبة له إلى علم الله.

أجيب: بأن المقصود منه التشبيه في القلة والحقارة، لا المماثَلة من كل الوجوه.

(ومنها): ما قيل: متى كانت قصة الخضر مع موسى عليه السلام؟

أجيب: حيث كان موسى في التيه، فلما فارقه الخضر رفع إلى قومه، وهم في التيه، وقيل: كانت قبل خروجه من مصر. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله عنه: تعيين وقت قصّتهما يحتاج إلى حجة صحيحة، فأين هي؟ والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في شأن الخضر عليه السلام:

(اعلم): أنه قد اختُلِف في اسمه، واسم أبيه، ونسبه، ونبوته، وتعميره،

فقال وهب بن منبه: هو بَلْيَا- بفتح الموحّدة، وسكون اللام، بعدها تحتانية- ووُجد بخط الدمياطي في أول الاسم بنقطتين، وقيل كالأول بزيادة ألف بعد

الباء، وقيل: اسمه إلياس، وقيل: اليسع، وقيل: عا مر، وقيل: خضرون، والأول أثبت: ابن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفشخند بن سام بن نوح، فعلى هذا فمولده قبل إبراهيم الخليل؛ لأنه يكون ابن عم جدّ إبراهيم،

وقد حَكَى الثعلبيّ قولين في أنه كان قبل الخليل، أو بعده، قال وهب: وكنيته أبو العباس. وروى الدارقطنيّ في "الأفراد" من طريق مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: هو ابن آدم لِصُلبه، وهو ضعيف، منقطع.

وذكر أبو حاتم السجستاني في المعمَّرين أنه ابن قابيل بن آدم، رواه عن أبي عبيدة وغيره.

وقيل: اسمه إرميا بن طيفاء، حكاه ابن إسحاق عن وهب، وإرميا بكسر أوله، وقيل: بضمه، وأشبعها بعضهم واوًا.

واختُلِف في اسم أبيه، فقيل: ملكان، وقيل: كلمان، وقيل: عاميل،___

وقيل: قابل، والأول أشهر، وعن إسماعيل بن أبي أويس: هو المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد، وحكى السهيليّ عن قوم أنه كان مَلَكًا من الملائكة، وليس من بني آدم، وعن ابن لهيعة: كان ابن فرعون نفسه،

وقيل: ابن بنت فرعون، وقيل: اسمه خضرون بن عاييل بن معمر بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وقيل: كان أبوه فارسيًّا، رواه الطبريّ من طريق عبد الله بن شوذب.

وحكى ابن ظفر في "تفسيره " أنه كان من ذرية بعض من آمن بإبراهيم،

وقيل: إنه الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه، فلا يموت حتى يُنفخ في الصُّور. وروى الدارقطني في الحديث المذكور قال: مُدّ للخضر في أجَلِه حتى يُكَذِّب الدجال.

وقال عبد الرزاق في "مصنفه" عن مَعْمَر في قصة الذي يقتله الدجال، ثم يحييه: بلغني أنه الخضر، وكذا قال إبراهيم بن سفيان الراوي عن مسلم في "صحيحه"، وروى ابن إسحاق في "المبتدأ" عن أصحابه أن آدم أخبر بنيه عند الموت بأمر الطوفان، ودعا بمن يحفظ جسده بالتعمير حتى يدفنه، فجمع نوح بَنِيه لمّا وقع الطوفان، وأعلمهم بذلك، فحفظوه حتى كان الذي تولى دَفْنه الخضر.

وروى خيثمة بن سليمان من طريق جعفر الصادق عن أبيه، أن ذا القرنين كان له صديق من الملائكة، فطلب منه أن يدلّه على شيء يطول به عمره، فدله على عين الحياة، وهي داخل الظلمة، فصار إليها، والخضر على مقدمته، فظفر بها الخضر، ولم يظفر بها ذو القرنين.

ورُوي عن مكحول، عن كعب الأحبار، قال: أربعة من الأنبياء أحياء، أمان لأهل الأرض، اثنان في الأرض: الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إ دريس وعيسى.

وحَكَى ابن عطية البغويّ (1) عن أكثر أهل العلم أنه نبيّ، ثم اختلفوا هل هو رسول، أم لا؟ .___

وقالت طائفة، منهم القشيريّ: هو وليّ، وقال الطبري في "تاريخه": كان الخضر في أيام أفريدون، في قول عامة علماء الكتاب الأول، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر.

وأخرج النقاش أخبارًا كثيرة تدلّ على بقائه، لا تقوم بشيء منها حجةٌ، قاله ابن عطية، قال: ولو كان باقيًا لكان له في ابتداء الإسلام ظهور، ولم يَثْبت شيء من ذلك.

وقال الثعلبيّ في "تفسيره": هو معفر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار، قال: وقد قيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان، حين يُرفع القرآن.

وقال القرطبيّ: هو نبيّ عند الجمهور، والآية تشهد بذلك؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-

لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء. وقال ابن الصلاح: هو حيّ عند جمهور العلماء، والعامة معهم في ذلك،

وإنما شَذَّ بإنكاره بعض المحدثين، وتبعه النوويّ، وزاد أن ذلك متفق عليه بين الصوفية، وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به أكثر من أن تُحْصَر. انتهى.

والذي جزم بأنه غير موجود الآن: البخاريّ، وإبراهيم الحربيّ، وأبو جعفر بن المنادى، وأبو يعلى ابن الفراء، وأبو طاهر العباديّ، وأبو بكر ابن العربيّ، وطائفة، وعمدتهم الحديث المشهور عن ابن عمر، وجابر، وغيرهما:

أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال في آخر حياته: "لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة،

ممن هو عليها اليوم أحد"، قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قَرْنه.

وأجاب من أثبت حياته بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث، كما خُصّ منه إبليس بالاتفاق.

ومِن حُجَج من أنكر ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}

الآية [الأنبياء: 34]، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما بعث الله نبيًّا، إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بُعث محمد، وهو حي ليؤمننّ به، ولينصرنّه"، أخرجه البخاريّ،

ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا قاتل معه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -

يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض"،

فلو كان الخضر موجودًا لم يصح هذا النفي، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِم الله موسى لَوَدِدْنا أنه كان صَبَر___حتى يقصّ علينا من خبرهما"،

فلو كان الخضر موجودأ لَمَا حَسُنَ هذا التمني، وَلأحضره بين يديه، وأراه العجائب، وكان أدعى لإيمان الكفرة، لا سيما أهل الكتاب.

وجاء في اجتماعه مع النبىّ -صلى الله عليه وسلم- حديث ضعيف، أخرجه ابن عدي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جدّه، أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سمع، وهو في المسجد كلامًا، فقال: "يا أنس، اذهب إلى هذا القائل، فقل له: "يستغفر لي"، فذهب إليه، فقال: قل له: (إن الله فضّلك على الأنبياء بما فضّل به رمضان على الشهور)، قال: فذهبوا ينظرون، فإذا هو الخضر." إسناده ضعيف.

وروى ابن عساكر من حديث أنس نحوه، بإسناد أوهى منه.

وروى الدارقطني في "الأفراد" من طريق عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا:

"يجتمع الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه، ويفترقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله، ما شاء الله ... " الحديثَ،

في إسناده محمد بن أحمد بن زبد- بمعجمة، ثم موحدة ساكنة، وهو ضعيف.

وروى ابن عساكر من طريق هشام بن خالد، عن الحسن بن يحيى، عن ابن أبي رواد، نحوه، وزاد: "ويشربان من ماء زمزم شربة، تكفيهما إلى قابل." وهذا مُعْضَل،

ورواه أحمد في "الزهد" بإسناد حسن عن ابن أبي روّاد، وزاد: "أنهما يصومان رمضان ببيت المقدس".

وروى الطبريّ من طريق عبد الله بن شوذب نحوه، ورُوي عن عليّ أنه "دخل الطواف، فسمع رجلًا يقول: (يا من لا يَشْغَله سَمْع عن سَمْع الحديث)، فإذا هو الخضر." أخرجه ابن عساكر من وجهين، في كل منهما ضَعْف، وهو في "المجالسة" من الوجه الثاني.

وجاء في اجتماعه ببعض الصحابة، فمَن بعدَهم أخبار، أكثرها واهي الإسناد، منها ما أخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقيّ من حديث أنس: "لَمّا قُبِض النبيّ -صلى الله عليه وسلم- دخل رجل، فتخطّاهم، فذكر الحديث في التعزية،

فقال أبو بكر، وعليّ: (هذا الخضر)، في إسناده عباد بن عبد الصمد، وهو واهٍ.

وروى سيف في "الردة" نحوَه بإسناد آخر مجهول، وروى ابن أبي حاتم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ نحوَه.___

وروى ابن وهب من طريق بن المنكدر، أن عمر صلى على جنازة، فسمع قائلًا يقول: (لا تَسْبِقْنَا)، فذكر القصة، وفيها: أنه دعا للميت، فقال عمر:

خذوا الرجل، فتوارى عنهم، فإذا أَثَرُ قَدَمِهِ ذِرَاعٌ، فقال عمر: هذا _والله_ الخضر." في إسناده مجهول، مع انقطاعه.

وروى أحمد في "الزهد" من طريق مسعر، عن معن بن عبد الرحمن، عن عون بن عبد الله، قال: بينا رجل بمصر في فتنة ابن الزبير مهمومًا؛ إذ لقيه رجل، فسأله، فأخبره باهتمامه بما فيه الناس من الفتن، فقال: قل: اللهم سلّمني، وسلّم مني، قال: فقالها: فسَلِم، قال مسعر: "يرون أنه الخضر."

وروى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" وأبو عروبة من طريق رياح - بالتحتانية- ابن عبيدة، قال: رأيت رجلًا يماشي عمر بن عبد العزيز، معتمدًا على يديه، فلما انصرف، قلت له: من الرجل؟ قال: رأيته؟ قلت: نعم، قال: "أحسبك رجلًا صالحًا، ذاك أخي الخضر، بَشَّرني أني سَأُوَلَّى، وأَعْدِلُ." لا بأس برجاله.

قال الحافظ رحمه الله: ولم يقع لي إلى الآن خبر، ولا أثر بسند جيد غيره، وهذا لا يعارض الحديث الأول في مائة سنة، فإن ذلك كان قبل المائة.

وروى ابن عساكر من طريق كرز بن وبرة، قال: أتاني أخ لي من أهل الشام، فقال: اقْبَلْ مني هذه الهدية، إن إبراهيم التيميّ حدّثني، قال: كنت جالسًا بفناء الكعبة، أذكر الله، فجاءني رجل، فسلَّم عليّ، فلم أر أحسن وجهًا منه، ولا أطيب ريحًا، فقلت: "من أنت؟" فقال: "أنا أخوك الخضِرُ." قال: فعلّمه شيئًا إذا فعله رأى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في المنام. وفي إسناده مجهول، وضعيف.

وروى ابن عساكر في ترجمة أبي زرعة الرازي بسند صحيح:

"أنه رأى، وهو شابّ رجلًا نهاه عن غشيان أبواب الأمراء، ثم راه بعد أن صار شيخًا كبيرًا على حالته الأُولى، فنهاه عن ذلك أيضًا، قال: فالتفتّ لأكلمه، فلم أره، فوقع في نفسي أنه الخضر."

وروى عمر الجمحي في "فرائده"، والفاكهي في "كتاب مكة" بسند فيه مجهول، عن جعفر بن محمد: أنه رأى شيخًا كبيرًا يحدّث أباه، ثم ذهب، فقال له أبوه: رُدّه عليّ، قال: فتطلّبته، فلم أقدر عليه، فقال لي أبي: "ذاك الخضر."___

وروى البيهقيّ من طريق الحجاج بن فرافصة:

"أن رجلين كانا يتبايعان عند ابن عمر، فقام عليهم رجل، فنهاهما عن الحلف بالله، ووعظهم بموعظة، فقال ابن عمر لأحدهما: اكتبها منه، فاستعاده حتى حفظها، ثم تطلّبه، فلم يره، قال: وكانوا يَرَوْن أنه الخضر، ذكر هذا في "الفتح" (1).

قال الجامع _عفا الله عنه_:

قد تبيّن بما سبق أن الحقّ أن الخضر _عليه السلام_ نبيّ، ومن أقوى الأدلّة وأظهرها في ذلك قوله _عز وجل_ حكايةً عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]،

وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} الآية [الكهف: 82]،

وقوله في الحديث الصحيح: "يا موسى إني على عِلم من عِلم الله علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على عِلم من عِلمه علّمكه لا أعلمه".

قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله في "تفسيره": ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدنيّ اللذين امتنّ الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله _تعالى_ عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]؛

أي: وإنما فعلته عن أمْر الله _جل وعلا_، وأمْرُ الله إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تُعرف بها أوامر الله، ونواهيه، إلا الوحيُ من الله _جل وعلا_، ولا سيما قَتْل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييبُ سُفُن الناس بِخَرْقِهَا؛ لأن العدوان على أنفس الناس، وأموالهم، لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر _تعالى_ طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45]،

و"إنما" صيغة حصْرٍ (2). انتهى كلامه، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

فخلاصة القول أن الخضر عليه السلام نبيّ بلا شكّ، والله تعالى أعلم.

وأما ما ورد في حياة الخضر _عليه السلام_ إلى اليوم، فإنه لا يثبت منه شيء عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والحكاياتُ عن الصالحين أكثرُها واهيةٌ، وما صحّ منها لا يُلتفت إليه؛ لأنه مظنون، عن غير معصوم.

قال الشيخ الشنقيطيّ أيضًا- بعدما أورد كثيرًا مما قيل في ذلك- ما نصّه:

"فتحصّل أن الأحاديث المرفوعة التي تدلّ على وجود الخضر حيًا باقيًا لم___ يثبت منها شيء، وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته، كما قدمنا إيضاحه.

وممن بيّن ضَعف الأحايث الدالة على حياة الخضر، وبقائه: ابن كثير في "تاريخه"، و"تفسيره"، وبيّن كثيرًا من أوْجه ضَعْفها ابن حجر في "الإصابة"،

وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" بعد أن ساق الأحاديث، والحكايات الواردة في حياة الخضر:

"وهذه الروايات والحكايات، هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدًا، لا تقوم بمثلها حجة في الدين. والحكايات لا يخلو أكثرها من ضَعف في الإسناد، وقصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم، من صحابيّ أو غيره؟ لأنه يجوز عليه الخطأ، والله أعلم، إلى أن قال رحمه الله: "وقد تصدى الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي _رحمه الله_ في كتابه "عُجَالة المنتظر في شرح حالة الخضر" للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات، فبيّن أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم، فبيّن ضَعْف أسانيدها ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك، وأحسن الانتقاد. انتهى منه (1).

وخلاصة القول: أن القول الصواب هو أن الخضر ليس حيًّا الآن، وأن القول بحياته لا دليل عليه يَثْبت، بل هو من حديث الخرافات التي ينبغي الحذرُ منها، والابتعادُ عنها، فإن اعتقاد مثل هذا قد دعا كثيرًا ممن يُنسب إلى العبادة إلى أن يدّعوا طريقة مبتدَعة في الذِّكر ونحوه بدعوى أن الخضر لقّنهم إياها، فبذلك دخل في المسلمين كثير من البدع والخرافات، فأضلّ به مشايِخُ الضلال كثيرًا من الجهّال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]،

"اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبِسًا علينا، فنضلَّ، واجعلنا للمتقين إمامًا"، آمين." اهـ

 

شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/ 200)

وفى قصة الخضر أصل عظيم من أصول الدين، وذلك أن ما تعبَّدَ الله به خلقه من شريعته ودينه، يجب أن يكون حجة على العقول، ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى على الخضر خرق السفينة، وقتل الغلام، كان صوابًا فى الظاهر، وكان موسى غير ملوم فى ذلك، فلما بَيَّن الخضر وجه ذلك ومعناه، صار الصواب الذى ظهر لموسى من إنكاره خطأ، وصار الخطأ الذى ظهر لموسى من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجةٌ قاطعة فى أنه يجب التسليم لله فى دينه، ولرسوله فى سنته، وبيانه لكتاب ربه، واتهام العقول إذا قصرت عن إدراك وجه الحكمة فى شىء من ذلك، فإن ذلك محنة من الله لعباده، واختبار لهم ليتم البلوى عليهم. ولمخالفة هذا ضل أهل البدع حين حكموا عقولهم وَرَدُّوا إليها ما جهلوه من معانى القدر وشبهه، وهذا خطأ منهم، لأن عقول العباد لها نهاية، وعلم الله لا نهاية له، قال الله عز وجل: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة: 255] ، فما أخفاه عنهم فهو سِرُّ الله الذى استأثر به، فلا يحل تعاطيه، ولا يُكلَّف طلبه، فإن المصلحة للعباد فى إخفائه منهم، والحكمة فى طَيَّه عنهم إلى يوم تُبلى السرائر، والله هو___

شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/ 201)

الحكيم العليم، قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71] . وقوله: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى) [الكهف: 82] يدل أنه فعله بوحى من الله بذلك إليه، ويشهد لهذا وجوهٌ من نفس القصة، منها: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتل نفسًا لما يتوقع وقوعه منها بعد حين مما يوجب عليها القتل، لأن الحدود لا تجب إلا بعد وقوعها. وأيضًا فإنه لا يقطع على فعل أحد قبل بلوغه، ولا يعلمه إلا الله، لأن ذلك إخبار عن الغيب. وكذلك الإخبار عن أخذ الملك السفينة غصبًا، والإخبار أيضًا عن بنيانه الجدار من أجل الكنز الذى تحته ليكون سببًا إلى استخراج الغلامين له إذا احتاجا إليه مراعاة لصلاح أبيهما، وهذا كله لا يدرك إلا بوحى من الله تعالى. وفى هذا الحديث: أن الخضر أقام الجدار بيده، وفى كتاب الأنبياء، قال سفيان: فأومأ بيده، وهذه آية عظيمة لا يقدر الناس على مثلها، وهى تشبه آية الأنبياء. وهذا كله حجة لمن قال بنبوة الخضر. وذكر الطبرى عن ابن عباس، قال: فكان قول موسى فى الجدار لنفسه، ولطلب شىء من الدنيا، وكان قوله فى السفينة والغلام لله. قال المهلب: وهو حجة لمن قال بنبوة الخضر.___


 

شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/ 202)

وفى هذا الحديث من الفقه استخدام الصاحب لصاحبه ومتعلمه إذا كان أصغر منه. وفيه: أن العالم قد يكرم، بأن تقضى له حاجة، أو يوهب له شىء، ويجوز له قبول ذلك، لأن الخضر حُمِل بغير أجر وهذا إذا لم يتعرض لذلك. وفيه: أنه يجوز للعالم، والرجل الصالح أن يُعِيبَ شيئًا لغيره إذا علم أن لصاحبه فى ذلك مصلحة. وأما قول أُبىِّ بن كعب لنوف: تمت كذب عدو الله - فإنما خرج ذلك على طريق الغضب، والإبلاغ فى التقريع، لأنه أراد بذلك خروجه عن ولاية الله وعن الدين، وألفاظ الغضب يؤتى بها على غير طريق الحقيقة فى الأكثر، وكان نوف قاضيًا. وذكر سعيد بن جبير: أن نوفًا ابن أخى كعب الأحبار. وقوله: بغير نول، يرد بغير جُعْلٍ، والنول والنَّال، والنَالة، كله الجُعْل، فأما النيل والنوال فإنهما العطية ابتداءً، يقال: رجل نال إذا كان كثير النول، ورجلان نالان، وقوم أنوال، كما قالوا: رجل مال: أى كثير المال، وكبش صاف: كثير الصوف، ويقال: نلت الرجل أنوله نولا، ونلت الشىء أناله نيلا، عن الخطابى. وقال صاحب تمت العين -: أنلته المعروف ونلته ونولته، والاسم: النوال، والنَّيْل، ويقال: نال يَنال منالا، ونَالَهُ، والنَّوْلَة اسم للقبلة.

 

شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (2/ 197)

والحكمة في أنهما اجتمعا بمجمع البحرين: أنهما بحران في العلم، وكان عند الصخرة عين ماء تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئاً ميتاً إلا حي بإذن الله تعالى، وكان قد أكلا من ذلك الحوت أحد جنبيه، وبقي الجنب الآخر، فلما وصلا إلى الصخرة «وضعا رؤوسهما فناما» .___

قيل: قام يوشع بن نون وتوضأ من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش.

وقيل: أصابه روح الماء وبرده فاضطرب في المكتل وعاش.

«فانسل الحوت من المكتل» أي: فخرج منه فسقط في البحر كما قال تعالى: ?فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً? [الكهف: 61] أي: ذهب في البحر ذهاباً.

قيل: وأمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق أي: مثل عقد البناء وهو: ما ترك تحته خالياً وعقد أعلاه بالبناء.

فائدة: اتفق هنا معجزتان:

إحداهما: حياة السمكة المملوحة المأكول منها.

والثانية: صيرورة الماء مثل السرب المحفور تحت الأرض كما جاء في رواية: «فجعل الماء لا يلتئم حتى صار كالكوة» .

وهاتان المعجزتان إما موسى أو للخضر. «وكان لموسى وفتاه عجباً» .



[1]  أخرجه البخاري في "صحيحه" (7/ 19 و 7/ 138) (رقم: 5146 و5767) عن ابن عمر _رضي الله عنهما_.

[2]  أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف (11/ 125) (رقم: 20100)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (10/ 26)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 419) (رقم: 2085)، وتخريج مشكلة الفقر (ص: 19) (رقم: 15) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ _رضي الله عنه_.

[3]  أخرجه الترمذي في "سننه" – ت. شاكر (5/ 308 و 5/ 587) (رقم: 3148 و 3615)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1440) (رقم: 4308). صححه الألباني _رحمه الله_ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/ 309) (رقم: 1468)

[4]  هذا قول باطل، وتقدم الرد على هذا القول في كلام القرطبي فيما نقله عنه ابن حجر.

[5]  وفي "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 372):

"وقوله: (فحملوهما بغير نول)، قال الإمام: يعنى بغير جعل. والنول والنوال: العطاء." اهـ

[6]  أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 89) (رقم: 203)، والفريابي في "القدر" (ص: 49) (رقم: 35)، والبزار في "مسنده" = "البحر الزخار" (8/ 46) (رقم: 3032)، وغيرهما: عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ _رضي الله عنه_.

ضعيف جدًّا: ضعفه الألباني في "ظلال الجنة" (1/ 89) (رقم: 203).

[7]  أخرجه أحمد في "مسنده" - عالم الكتب (4/ 228) (رقم: 18006)، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 323) (رقم: 1734)

[8]  أخرجه مالك في "الموطأ" – ت. الأعظمي (5/ 1323) (رقم: 3338)، والبزار في "مسنده" = "البحر الزخار" (15/ 385) (رقم: 8993)، البزَّاز في "الفوائد" = "الغيلانيات" (1/ 510) (رقم: 632)، وابن شاهين في الترغيب في "فضائل الأعمال" (ص: 152) (رقم: 528)، وفي شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين (ص: 41) (رقم: 44)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (1/ 88) (رقم: 90)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (1/ 172) (رقم: 319)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 195) (رقم: 20337)، والدارقطني في "سننه" (5/ 440) (رقم: 4606): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي

والحديث حسن: حسنه الألباني في "تخريج مشكاة المصابيح" (1/ 66) (رقم: 186)، بل صححه في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/ 566 و 1/ 615) (رقم: 2937 و 3232)، و"الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام" (ص: 30) (رقم: 6)، و"منزلة السنة في الإسلام" (ص: 18).

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة