شرح الحديث 43 من باب الوضوء - بلوغ المرام
43 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ
النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى
الْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ |
ترجمة المُغِيرَة بن شُعْبَة _رضي الله
عنه_:
الأعلام للزركلي (7/ 277):
"المُغِيرَة بن شُعْبَة (20 ق هـ - 50
هـ = 603 - 670 م)
المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثَّقَفي،
أبو عبد الله: أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم، صحابي.
يقال له (مغيرة الرأي). ولد في الطائف (بالحجاز)
وبرِحها
في الجاهلية مع جماعة من بني مالك، فدخل الإسكندرية وافدا على المقوقس، وعاد إلى
الحجاز.
فلما ظهر الإسلام تردد في قبوله إلى أن كانت سنة 5
هـ فأسلم. وشهد الحديبيّة واليمامة وفتوح الشام.
وذهبت عينه باليرموك.
وشهد القادسية
ونهاوند وهمدان وغيرها. وولاه عمر بن الخطاب على
البصرة، ففتح عدة بلاد، وعزله، ثم ولاه الكوفة.
وأقره عثمان على الكوفة ثم عزله. ولما حدثت الفتنة
بين علي ومعاوية اعتزلها المغيرة، وحضر مع___الحكمين. ثم ولاه معاوية الكوفة فلم
يزل فيها إلى أن مات.
قال الشعبي: دهاة
العرب أربعة: معاوية للأناة، وعمرو بن العاص للمعضلات، والمغيرة للبديهة، وزياد بن
أبيه للصغير والكبير.
وللمغيرة 136 حديثا. وهو
أول من وضع ديوان البصرة، وأول من سلم عليه بالإمرة في الإسلام
نص الحديث وشرحه:
(خ م ت س د حم) وَعَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ
- رضي الله عنه - قَالَ: ("عَدَلَ رَسُولُ اللهِ _صلى اللهُ عليه وسلَّم_،
وَأَنَا مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَعَدَلْتُ مَعَهُ،
فَأَنَاخَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -) (فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ)
(2) (وَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ وَقَالَ: " يَا مُغِيرَةُ اتْبَعْنِي بِمَاءٍ
") (3) (فَتَبِعْتُهُ , " فَتَغَيَّبَ عَنِّي سَاعَةً) (4) (ثُمَّ
أَقْبَلَ " فَلَقِيتُهُ) (5) (فَقُمْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ) (6)
(وَهُوَ يَتَوَضَّأُ) (7) (وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ) (8) (مِنْ صُوفٍ) (9)
وفي رواية: (جُبَّةٌ رُومِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ) (10) (فَغَسَلَ يَدَيْهِ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) (11) (وَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ) (12) (ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ) (13) (ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ
, فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ , وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى
مَنْكِبَيْهِ (14)) (15) (وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ) (16)
(وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ) (17) وفي رواية: (مَسَحَ
بِنَاصِيَتِهِ وَجَانِبَيْ عِمَامَتِهِ) (18) وفي رواية: (مَسَحَ بِرَأسِهِ
") (19) (ثُمَّ أَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: " دَعْهُمَا
فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ) (20) (فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ) (21)
(عَلَى ظَاهِرِهِمَا) (22) (ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ) (23) (فَأَدْرَكْنَا
النَّاسَ) (24) (وَقَدْ قَامُوا فِي الصَّلَاةِ , يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رضي الله عنه -) (25) (صَلَاةَ الصُّبْحِ) (26) (وَقَدْ
رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً) (27) (فَذَهَبْتُ لِأُوذِنَهُ " فَنَهَانِي رَسُولُ
اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -) (28) (وَقَامَ فَصَفَّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ,
فَصَلَّى وَرَاءَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ) (29)
(فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى
اللهُ عليه وسلَّم - يُتِمُّ صَلَاتَهُ) (30) (وَقُمْتُ فَرَكَعْنَا الرَّكْعَةَ
الَّتِي سَبَقَتْنَا ") (31) (فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ ,
فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ) (32) (لِأَنَّهُمْ سَبَقُوا النَّبِيَّ - صلى اللهُ
عليه وسلَّم - بِالصَلَاةِ) (33) (" فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى
اللهُ عليه وسلَّم - صَلَاتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُمْ ,
أَوْ قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمْ - يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوْا الصَلَاةَ لِوَقْتِهَا
- ") (34)[1]
الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (1/ 362)
الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، يَقُولُ: خَرَجَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلَ مَنْزِلًا
فَتَبِعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ فَلَمَّا أَقْبَلَ تَلَقَّيْتُهُ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ
فَتَوَضَّأَ وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُصَبُّ عَلَيْهِ إِذَا
تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ , وَابْنُ عُمَرَ
, وَأَبُو هُرَيْرَةَ
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 231/ 83) (رقم:
247)، أبو داود في "سننه" (1/ 38) (رقم: 150)، سنن الترمذي في "سننه"
– ت. شاكر (1/ 170) (رقم: 100)، والنسائي في "سننه" (1/ 63 و 1/ 76_77)
(رقم: 82 و 107_109)، وأحمد في "مسنده" - عالم الكتب (4/ 255) (رقم: 18234)،
والشافعي "مسنده" - ترتيب سنجر (1/ 171) (رقم: 48)، وابن أبي شيبة في "المصنف"
(1/ 30) (رقم: 240)، أبو عوانة في "المستخرج" – ط. الجامعة الإسلامية
(2/ 540) (رقم: 785)، وأبو نعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (1/
329) (رقم: 632).
من فوائد الحديث"
وقال ابن النذر _رحمه الله_ في "الأوسط في
السنن والإجماع والاختلاف" (1/ 361):
"اسْتِعَانَةُ الرَّجُلِ بِغَيْرِهِ فِي
الْوُضُوءِ." اهـ
الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (1/ 441):
"وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَطَهَّرَ فَأَكْمَلَ
طُهُورَهُ، ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ أَنَّ لَهُ
أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ." اهـ
وقال البسام في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام"
(1/ 234_235):
* ما يؤخذ من الحديث:
1 - الحديث فيه حكاية المسح على النَّاصية
وعلى العمامة، وقال بالمسح عليهما معًا بعض العلماء، والرَّاجح أنَّ الجمع بينهما
إنَّما هو برواية الحديث، وأنَّه -صلى الله عليه وسلم- مسح العمامة وحدها، ومسح
الرَّأس وحده مبتدئًا بالنَّاصية، فجاءت رواية الحديث بالجمع بينهما؛ فظنَّ بعض
العلماء أنَّ الجمع هو بالعمل أيضًا.
2 - اقتصاره -صلى الله عليه وسلم- على مسح
النَّاصية لم يُحفظ عنه، قال ابن القيم: لم يصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه
اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة.
3 - الحديث الذي معنا فيه المسح على النَّاصية
وعلى العمامة، وتقدَّم أنَّ الرَّاجح أنَّ الجمع بينهما إنَّما هو برواية الحديث،
لا الجمع بينهما بالمسح، وأنَّه -صلى الله عليه وسلم- إنْ مسح على العمامة، اقتصر
عليها، وإنْ مسح على الرَّأس، مسح___عليه كله لا بعضه.
4 - جواز المسح على العمامة، وهو المشهور من
مذهب الإمام أحمد؛ لهذا الحديث، ولما روى البخاري (205) عن عمرو بن أمية قال: رأيت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسح على عمامته وخفيه"، وهو من مفردات مذهب
الإمام أحمد؛ فلا يصح المسح عليها عند الأئمة الثلاثة.
5 - قد اشترط أصحابنا لصحَّة المسح على
العمامة ثلاثة شروط، هي:
(أ) أَنْ تكُونَ على ذَكَرٍ دون أُنثى.
(ب) أَنْ تكون ساترةً لغير ما العادة كشفه من
الرأس.
(ج) أَنْ تكُون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.
وتشارك الخف في شروطه؛ كما سيأتي إنْ شاء الله
تعالى.
6 - قوله: "توضأ" استدل به
الحنابلة على جواز المسح على الخفين ونحوهما، إذا لبسهما بعد كمال طهارة بالماء،
فإنْ كانت طهارته بتيمم، لم يصح، وعلى القول الثاني -من أنَّ التيمم طهارة قائمة
مقام الطهارة بالماء- فإنَّه يجوز ولو كان بطهارة تيمم، وهو قولٌ وجيهٌ، ولا
يعارضه قوله: "توضأ"؛ فإنَّه ليس له مفهوم." اهـ
فتح الباري لابن حجر (1/ 307):
"وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ:
* الْإِبْعَادُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ
وَالتَّوَارِي عَنِ الْأَعْيُنِ،
* وَاسْتِحْبَابُ الدَّوَامِ عَلَى الطَّهَارَةِ
لِأَمْرِهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ الْمُغِيرَةَ أَنْ يَتْبَعَهُ
بِالْمَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَنْجِ بِهِ، وَإِنَّمَا تَوَضَّأَ بِهِ حِينَ
رَجَعَ،
* وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ كَمَا شُرِحَ
فِي بَابِهِ وَغَسْلُ مَا يُصِيبُ الْيَدَ مِنَ الْأَذَى عِنْدَ الِاسْتِجْمَارِ
* وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي إِزَالَتُهُ بِغَيْرِ
الْمَاءِ،
* وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى إِزَالَةِ الرَّائِحَةِ
بِالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ،
* وَقَدْ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ مَا انْتَشَرَ
عَنِ الْمُعْتَادِ لَا يُزَالُ إِلَّا بِالْمَاءِ،
* وَفِيهِ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ
إِذَا دُبِغَتْ، وَالِانْتِفَاعُ بِثِيَابِ الْكُفَّارِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ
نَجَاسَتُهَا، لِأَنَّهُ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ لَبِسَ الْجُبَّةَ
الرُّومِيَّةَ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ،
* وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ
الصُّوفَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ الْجُبَّةَ كَانَتْ شَامِيَّةً
وَكَانَتِ الشَّامُ إِذْ ذَاكَ دَارَ كُفْرٍ، وَمَأْكُولُ أَهْلِهَا الْمَيْتَاتِ،
كَذَا قَالَ.
* وَفِيهِ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ
الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْوُضُوءِ الَّتِي فِي
الْمَائِدَةِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي___غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ
بَعْدَهَا بِاتِّفَاقٍ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ فِي مَعْنَى
ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
* وَفِيهِ التَّشْمِيرُ فِي السَّفَرِ وَلُبْسُ
الثِّيَابِ الضَّيِّقَةِ فِيهِ لِكَوْنِهَا أَعْوَنَ عَلَى ذَلِكَ،
* وَفِيهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى سُنَنِ الْوُضُوءِ
حَتَّى فِي السَّفَرِ،
* وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي
الْأَحْكَامِ وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى أَمْ لَا، لِأَنَّهُ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ قَبِلَ
خَبَرَ الْأَعْرَابِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
* وَفِيهِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى غسل مُعظم
الْمَفْرُوض غسله لا يجزىء لِإِخْرَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ وَلَمْ يَكْتَفِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُمَا بِالْمَسْحِ
عَلَيْهِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ
مَسْحِ الرَّأْسِ لِكَوْنِهِ كَمَّلَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَلَمْ
يَكْتَفِ بِالْمَسْحِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ ذِرَاعَيْهِ." اهـ
شرح النووي على مسلم (3/ 172)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ، فِيهِ فَوَائِدُ
كَثِيرَةٌ:
* مِنْهَا: جَوَازُ اقْتِدَاءِ الْفَاضِلِ
بِالْمَفْضُولِ،
* وَجَوَازُ صَلَاةِ النَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ خَلْفَ بَعْضِ أُمَّتِهِ،
* وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَفْضَلَ تَقْدِيمُ
الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوهَا أَوَّلَ الْوَقْتِ
وَلَمْ يَنْتَظِرُوا النَّبِيَّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_،
وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ
أَوَّلِ الْوَقْتِ، اسْتُحِبَّ لِلْجَمَاعَةِ أَنْ يُقَدِّمُوا أَحَدَهُمْ
فَيُصَلِّي بِهِمْ إِذَا وَثِقُوا بِحُسْنِ خُلُقِ الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ لَا
يَتَأَذَّى مِنْ ذلك ولا يترتب عليه فتنةٌ. فأما إذا لَمْ يَأْمَنُوا أَذَاهُ،
فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فُرَادَى، ثُمَّ إِنْ أَدْرَكُوا
الْجَمَاعَةَ بَعْد ذلك، استحب___لَهُمْ إِعَادَتُهَا مَعَهُمْ،
* وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ
بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، أَتَى بِمَا أَدْرَكَ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، أَتَى
بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ وَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ، بِخِلَافِ قِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَنِ الْمَسْبُوقِ، إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ
رَاكِعًا.
وَمِنْهَا: اتِّبَاعُ الْمَسْبُوقِ لِلْإِمَامِ فِي
فِعْلِهِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَجُلُوسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
مَوْضِعَ فِعْلِهِ لِلْمَأْمُومِ.
* وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَسْبُوقَ إِنَّمَا
يُفَارِقُ الْإِمَامَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا
بَقَاءُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي صَلَاتِهِ، وَتَأَخُّرُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ _رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا_ لِيَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ قَدْ
رَكَعَ رَكْعَةً، فَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
التَّقَدُّمَ، لِئَلَّا يَخْتَلَّ تَرْتِيبُ صَلَاةِ الْقَوْمِ، بِخِلَافِ
قَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_ وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن
الحجاج (7/ 106)
(وَعَلَى الْعِمَامَةِ) أي ومسح على العمامة
مع الناصية،
ففيه:
تكميل مسح الرأس بالعمامة، فليس فيه حجة لمن قدّر مسح الرأس بربعه؛ لأنه ما اكتفى
بمسح الناصية، بل أكمله بمسح العمامة، فيكون دليلًا لمن يرى وجوب تعميم الرأس بالمسح،
إما مباشرة، أو بما عليه من العمامة ونحوه.
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن
الحجاج (7/ 107)
هذا الذي ذهب إليه الإمام أحمد ومن معه من جواز
الاقتصار على مسح العمامة هو الحقّ؛ لصحّة الأحاديث بذلك.
والحاصل أنه يجب تعميم الرأس بالمسح، إما مباشرة،
أو على ما لا يلاقيه من العمامة، ونحوها.
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن
الحجاج (7/ 110)
والحاصل أنه ثبت المسح على الرأس فقط، وعلى
العمامة، فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكلّ صحيح ثابت عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، مذكور في كتب الأئمة الصحاح،
والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - مُبيّن لأمر الله،
فقصر الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين. انتهى كلام عبيد الله
المباركفوريّ _رحمه الله_ في "شرحه على المشكاة" ببعض تصرّف، وهو بحثٌ
نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب. [راجع "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة
المصابيح" (2/ 103 – 104)]
زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 187)
وَكَانَ يَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهِ تَارَةً، وَعَلَى
الْعِمَامَةِ تَارَةً، وَعَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ تَارَةً.
وَأَمَّا اقْتِصَارُهُ عَلَى النَّاصِيَةِ
مُجَرَّدَةً فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن
الحجاج (7/ 83_84)
في فوائده[2]:
1 - (منها): بيان مشروعيّة المسح على
الخفّين.
2 - (ومنها): استحباب الإبعاد عند قضاء
الحاجة، والتواري عن الأعين.
3 - (ومنها): استحباب الدوام على الطهارة؛
لأمره - صلى الله عليه وسلم - المغيرة أن يتبعه بالماء، مع أنه لم يستنج به، وإنما
توضّأ به حين رجع، كذا قيل، وهو محلّ نظر.
4 - (ومنها): جواز الاستعانة في صبّ الماء
على المتوضئ، وقد رُوي عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - كراهة ذلك، وقد روي عنهما
خلاف ذلك، فرُوي عن عمر أن ابن عبّاس - رضي الله عنهم - صبّ على يديه الوَضُوء،
وقال ابن عمر: لا أبالي أعانني رجل على وضوئي، وركوعي، وسجودي، وهو الصحيح؛ قاله
القرطبيّ _رحمه الله_ ["المفهم" (1/ 529)]___
5 - (ومنها): غسل ما يُصيب اليد من الأذى عند
الاستجمار، وأنه لا يكفي إزالته بغير الماء.
6 - (ومنها): الاستعانة على إزالة الرائحة
بالتراب ونحوه، وقد يُستنبَط منه أن ما انتَشَر عن المعتاد لا يزال إلا بالماء،
هكذا قيل، وليُتأمّل.
7 - (منها): جواز الانتفاع بجلود الميتة، إذا
دُبِغَت.
8 - (ومنها): جواز الانتفاع بثياب الكفار حتى
يُتَحَقَّق نجاستها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لبس الجبّة الرومية، ولم
يَستَفصِل.
9 - (ومنها): أن القرطبيّ رحمه الله
استَدَلَّ به على أن الصوف لا يَنجَس بالموت؛ لأن الجبة كانت شامية، وكانت الشام
إذ ذاك دار كفر، ومأكول أهلها الميتات، ولم يسأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن
ذلك، ولا توقّف فيه ["المفهم" (1/ 530)]
10 - (ومنها): أن فيه الردَّ على مَن زَعَم
أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في المائدة؛ لأنها نزلت في غزوة
المريسيع، وكانت هذه القصة في غزوة تبوك، وهي بعدها باتّفاق، وقد تقدّم حديث جرير
البجليّ في معنى ذلك قريبًا.
11 - (ومنها): أن فيه مشروعيّة التشمير في
السفر، ولبس الثياب الضيِّقة فيه؛ لكونها أعون على ذلك.
12 - (ومنها): المواظبة على سنن الوضوء حتى
في السفر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ وضوءًا كاملًا، كما تقدّم بيانه، لا
كما ظنّ القرطبيّ أنه اقتصر على فروض الوضوء دون السنن؛ لأنه إنما قال ذلك دون
تأمّل الروايات المختلفة التي فسّر بعضها بعضًا، فلو تأمّلها لاتّضح له خلاف ما
قال، فقد بُيّن في بعضها أنه توضّأ ثلاثًا ثلاثًا، كما قدّمنا بيان ذلك آنفًا،
فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد.
13 - (ومنها): قبول خبر الواحد في الأحكام،
ولو كانت امرأةً، سواء كان ذلك فيما تَعُمّ به البلوى أم لا، لأنه - صلى الله عليه
وسلم - قَبِلَ خبر الأعرابية كما تقدم بيانه.
14 - (ومنها): أن الاقتصار على غسل مُعْظَم
المفروض غسله لا يجزئ؛___لإخراجه - صلى الله عليه وسلم - يديه من تحت الجبة، ولم
يَكْتَفِ فيما بقي منهما بالمسح عليه، وما أكثر تساهل العوامّ في هذه المسألة،
فترى بعضهم لا يعتنون بإكمال محلّ الفرض في الغسل، ولا سيّما إذا كانت عليهم ثيابٌ
ضيّقةٌ، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.
15 - (ومنها): أنه يُستَدَلّ به للمذهب
الصحيح القائل بوجوب تعميم الرأس بالمسح، وهو مذهب مالك، والبخاريّ، لكونه - صلى
الله عليه وسلم - كَمَّلَ بالمسح على العمامة، ولم يَكْتَف بالمسح على ناصيته فقط،
وقد تقدّم في المسائل المذكورة في "باب صفة الوضوء" أن هذا المذهب هو
الحقّ، وحاصله أن تعميم الرأس بالمسح واجب، ولكن لا يجب على الشعر فقط، بل على
الرأس، وما عليه من العمامة، ونحوها، والله تعالى أعلم.
16 - (ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله:
فيه دليلٌ على أن يسير التفريق في الطهارة لا يُفسدها، قال أبو محمد عبد الوهّاب:
لا يُختَلف في أن التفريق غير المتفاحش لا يُفسد الوضوء، واختُلف في الكثير
المتفاحش، فرُوي عن ابن وهب أنه يُفسده في العمد والسهو، وهو أحد قولي الشافعيّ،
وحُكي عن ابن عبد الحكم أنه لا يُفسده في الوجهين، وبه قال أبو حنيفة، والشافعيّ
في قول آخر، وعند ابن القاسم أنه يُفسده مع العمد، أو التفريط، ولا يُفسده مع
السهو، وقال أبو الفضل عياضٌ: إن مشهور المذهب أن الموالاة سنّةٌ، وهذا هو الصحيح؛
بناءً على ما تقدّم من أن الفرائض محصورة في الآية، وليس في الآية ما يدلّ على
الموالاة، وإنما أُخذت من فعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لم يُروَ عنه قطّ
أنه فرّق تفريقًا متفاحشًا، واختلف في الفرق بين اليسير والكثير، فقيل: ذلك يرجع
إلى الاجتهاد، وليس فيه حدّ، وقيل: جفاف الوضوء هو الكثير. انتهى ["المفهم"
(1/ 530)]
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح
عندي أن الموالاة من مستحبّات الوضوء؛ لأنه لم يَرِد ما يدلّ على وجوبه، فتبصّر،
والله تعالى أعلم.
17 - (ومنها): مشروعيّة خدمة أهل العلم
والفضل.
18 - (ومنها): جواز اقتداء الفاضل بالمفضول،
وجواز صلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ___خلف بعض أمته، حيث صلّى هنا خلف عبد
الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، وسيأتي في "كتاب الصلاة" صلاته خلف أبي
بكر - رضي الله عنه -.
19 - (ومنها): بيان حكم المسبوق في صلاته،
وهو أنه يُصلّي مع الإمام ما أدركه، ثم يقضي بعد سلام الإمام ما سُبِق به، ولا
يسقط ذلك عنه، قال النوويّ: بخلاف قراءة الفاتحة، فإنها تسقط عن المسبوق إذا أدرك
الإمام راكعًا انتهى ["شرح النوويّ" (3/ 173)]
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النووي من
سقوط الفاتحة عن المسبوق، وإن قال به جمهور الفقهاء، إلا أنه خلاف الراجح، وقد
حقّقت المسألة في "شرح النسائيّ" بأدلّتها، وسأتعرّض لها في هذا الشرح
أيضًا في الموضع المناسب لها من "كتاب الصلاة" - إن شاء الله تعالى -.
20 - (ومنها): طلب اتّباع المسبوق للإمام في
ركوعه وسجوده وجلوسه، وإن لم يكن موضع جلوس المأموم.
21 - (ومنها): أن المأموم إنما يفارق الإمام
بعد سلامه، لا قبله.
22 - (ومنها): أن الأفضل تقديم الصلاة في أول
الوقت، حيث إن الصحابة - رضي الله عنهم - فعلوها في أول الوقت، ولم ينتظروا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، وأثنى عليهم في ذلك.
23 - (ومنها): أن من بادر إلى الطاعة يُشكَر.
24 - (ومنها): أن الإمام الراتب إذا تأخّر عن
أول الوقت استُحِبَّ للجماعة أن يقدّموا أحدهم، فيصلّي بهم، إذا وَثقوا بحسن خلق
الإمام، وأنه لا يتأذّى من ذلك، ولا يترتّب عليه فتنة، فأما إذا لم يَأمنوا أذاه،
فإنهم يصلّون في أول الوقت فرادى، ثم إن أدركوا الجماعة بعد استُحبّ لهم إعادتها
معهم، كما أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أبا ذرّ - رضي الله عنه - بذلك، فقد
أخرج المصنّف في "الصلاة"، عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - قال: قال لي
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يؤخرون
الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال:
"صَلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ، فإنها لك نافلة"، وفي
لفظ: "ثم إن___أقيمت الصلاة، فصلّ معهم، فإنها زيادة خير"، وفي لفظ: قال: "صلِّ الصلاة لوقتها، ثم اذهب
لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصلِّ".
25 - (ومنها): بيان فضل عبد الرحمن بن عوف -
رضي الله عنه - حيث قدّموه للصلاة بهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع
والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان." اهـ
Komentar
Posting Komentar