شرح الآيات في باب في التفَكُّرِ في عظيم مخلوقات الله تَعَالَى_، وفناءِ الدنيا، وأهوال الآخرة، وسائر أمورهما، وتقصيرِ النفس، وتهذيبِها، وحملها عَلَى الاستقامة

 

 

9- باب في التفَكُّرِ في عظيم مخلوقات الله تَعَالَى_، وفناءِ الدنيا، وأهوال الآخرة، وسائر أمورهما، وتقصيرِ النفس، وتهذيبِها، وحملها عَلَى الاستقامة

 

تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 570) :

"إِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَنَالَ فَضْلَ التَّفَكُّرِ، فَلْيَتَفَكَّرَ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ:

أَوَّلُهَا: فِي الْآيَاتِ وَالْعَلَامَاتِ، 

وَالثَّانِي: فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، 

وَالثَّالِثُ: فِي ثَوَابِهِ، 

وَالرَّابِعُ: فِي عَقْلِهِ، 

وَالْخَامِسُ: فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ وَجَفَائِهِ لَهُ،

* فَأَمَّا التَّفَكُّرُ فِي الْآيَاتِ وَالْعَلَامَاتِ: فَأَنْ يَنْظُرَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ _تَعَالَى_ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا، وَغُرُوبِهَا فِي مَغْرِبِهَا، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي خَلْقِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20-21]

فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِي الْآيَاتِ وَالْعَلَامَاتِ يَزِيدُ بِهِ يَقِينًا وَمَعْرِفَةً.

* وَأَمَّا التَّفَكُّرُ فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ : فَأَنْ يَنْظُرَ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، فَقَالَ : (كُلُّ مَا ظَهَرَ، فَهُوَ الْآلَاءُ. وَمَا بَطَنَ، فَهُوَ النَّعْمَاءُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ: الْيَدَانِ آلَاؤُهُ، وَقُوَّةُ الْيَدَيْنِ نَعْمَاؤُهُ. وَالْوَجْهُ آلَاؤُهُ، وَحُسْنُ الْوَجْهِ، وَالْجَمَالُ نَعْمَاؤُهُ. وَالْفَمُ آلَاؤُهُ، وَطَعْمُ الطَّعَامِ نَعْمَاؤُهُ، وَالرِّجْلَانِ آلَاؤُهُ، وَالْمَشْيُ نَعْمَاؤُهُ،

فَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ رِجْلَانِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةُ الْمَشْيِ، فَقَدْ أُعْطِيَ الْآلَاءَ، وَلَمْ يُعْطَ النَّعْمَاءَ. وَالْعُرُوقُ وَالْعِظَامُ آلَاؤُهُ، وَصِحَّتُهَا وَسُكُونُهَا نَعْمَاؤُهُ)

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : "الْآلَاءُ إِيصَالُ النِّعْمَةِ، وَالنَّعْمَاءُ دَفْعَ الْبَلِيَّةِ"، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَلَى ضِدِّ هَذَا.

وَيُقَالُ: الْآلَاءُ وَالنَّعْمَاءُ وَاحِدٌ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ،

فَإِذَا تَفَكَّرَ الْإِنْسَانُ فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ يَزِيدُ الْمَحَبَّةَ،

* وَأَمَّا التَّفَكُّرُ فِي ثَوَابِهِ: فَهُوَ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي ثَوَابِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ، فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْكَرَامَاتِ،

فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي ثَوَابِهِ يَزِيدُهُ رَغْبَةً فِيهَا، وَاجْتِهَادًا فِي طَلَبِهَا، وَقُوَّةً فِي طَاعَةِ رَبِّهِ،

* وَأَمَّا التَّفَكُّرُ فِي عِقَابِهِ: فَهُوَ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ فِي النَّارِ مِنَ الْهَوَانِ، وَالْعُقُوبَةِ، وَالنَّكَالِ،

فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي ذَلِكَ يَزِيدُهُ رَهْبَةً، وَيَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَعَاصِي.

* وَأَمَّا التَّفَكُّرُ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ: فَهُوَ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا سَتَرَ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ بِهَا، وَدَعَاهُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَنْظُرُ فِي جَفَاءِ نَفْسِهِ كَيْفَ تَرَكَ___أَوَامِرَهُ، وَارْتَكَبَ مَعَاصِيهِ، فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي ذَلِكَ يَزِيدُ الْحَيَاءَ وَالْخَجَلَ." اهـ

 

ثم قال السمرقندي في "تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين" (ص: 572):

وَلَا يُتَفَكَّرُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ، فِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَسْوَسَةٌ.

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا تَتَفَكَّرْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

* لَا تَتَفَكَّرْ فِي الْفَقْرِ فَيَكْثُرَ هَمُّكَ وَغَمُّكَ، وَيَزِيدَ فِي حِرْصِكَ،

* وَلَا تَتَفَكَّرْ فِي ظُلْمِ مَنْ ظَلَمَكَ فَيَغْلُظَ قَلْبُكَ، وَيَكْثُرَ حِقْدُكَ، وَيَدُومَ غَيْظُكَ،

* وَلَا تَتَفَكَّرْ فِي طُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، فَتُحِبَّ الْجَمْعَ، وَتُضَيِّعَ الْعُمْرَ، وَتُسَوِّفَ فِي الْعَمَلِ.


قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]،

 

تفسير الآية :

 

قال ابن الجوزي _رحمه الله_ في "زاد المسير في علم التفسير" (3/ 503):

"ومعنى الكلام: لِيتفكرِ الإِنسانُ منكم وحده، ولْيَخْلُ بغيره، ولْيُناظِر، ولْيَسْتَشِر، فَيَسْتَدِلّ بالمصنوعات على صانعها، ويُصدِّق الرسول على اتبّاعه، ولْيَقُل الرجلُ لصاحبه: (هَلُمَّ فلْنَتَصادق، هل رأينا بهذا الرجل جِنَّة قَطّ، أو جرَّبْنا عليه كَذِباً قَطّ).

وتم الكلام عند قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46]،

وفيه اختصار، تقديره:

{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46] لتعلموا صِحَّة ما أمرتُكم به وأنَّ الرسول ليس بمجنون، {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] في الآخرة." اهـ

 

وقال السعدي في "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 683):

"إذا تأملوا كلامه الفصيح، ولفظه المليح، وكلماتِهِ التي تَمْلَأُ القلوبَ أمنا، وإيمانا، وتُزَكِّي النفوسَ، وتُطَهِّرُ القُلُوْبَ، وتَبْعَثُ على مكارم الأخلاق، وتَحُثُّ على محاسن الشيم، وتُرَهِّبُ عن مساوئ الأخلاق ورذائلها،

إذا تكَلَّمَ، رَمَقَتْهُ العيونُ، هيبةً وإجلالاً وتعظيمًا.

فهل هذا يُشْبِهُ هَذَيَانَ الْمَجَانِيْنِ، وعَرْبَدَتَهُمْ، وكلامَهم الذي يُشْبِهُ أَحْوَالَهُمْ؟

فكل من تدبر أحواله ومقصده، استعلام (هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده، أو مع غيره، جزم بأنه رسول الله حقا، ونبيه صدقا، خصوصا المخاطبين، الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره." اهـ

 

وقال ابن القيم _رحمه الله_ في "الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة" (4/ 1275):

"فأشار بقيامهم إثنين إثنين إلى المناظرة وفرادى إلى النظر والتفكر. وكل منهما ينقسم إلى : محمود، ومذموم.

* فالنظر المحمود: النظر في الطريق الصحيح ليتوصل به إلى معرفة الحق.  

* والنظر المذموم نوعان:

أحدهما: النظر في الطريق الباطل وإن قصد به التوصل إلى الحق فإن الطريق الباطل لا يفضي إلى الحق.

والثاني: النظر والفكر الذي يقصد به رد قول خصمه مطلقا حقا كان أو باطلا فهو ينظر نظرا يرد به قول من يبغضه ويعاديه بأي وجه كان." اهـ

 

وقال ابن القيم في "الفوائد" (ص: 20):

"الرب _تَعَالَى_ يَدْعُو عباده فِي الْقُرْآن إِلَى مَعْرفَته من طَرِيقين :

* أَحدهمَا: النّظر فِي مفعولاته،

* وَالثَّانِيْ: التفكر فِي آيَاته وتدبّرها، فَتلك آيَاته المشهودة، وَهَذِه آيَاته المسموعة المعقولة.

فالنوع الأوّل: كَقَوْلِه: (إِنَّ فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ...} [البقرة: 164]، إِلَى آخرهَا

وَقَوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [آل عمران: 190]، وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن،

وَالثَّانِي: كَقَوْلِه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]،

وَقَوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]،

وَقَوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]،

وَهُوَ كثير أَيْضا." اهـ

 

التبيان في أقسام القرآن (ص: 303) لابن القيم :

"لما كان أقربُ الأشياءِ إلى الإنسانِ نفسَهُ، دعاه خالِقُهُ وبارِئُهُ، ومُصَوِّرُهُ وَفاَطِرُهُ مِنْ قَطْرَةِ مَاءٍ إلى التبَصُّرِ والتَّفَكُّرِ فِيْ نفْسِهِ،

فإِذَا تفكَّر الانسانُ في نفسه، استَنَارَتْ لَهُ آياتُ الربوبيةِ، وسطعتْ له أنوارُ اليقينِ، واضمحلتْ عنه غمَراتُ الشكِّ والرَّيْبِ، وانْقَشَعَتْ عنه ظلماتُ الجهلِ،

فإنه إذا نظر في نفسه، وَجَدَ آثارَ التدبير فيه قائماتٍ وأدلةَ التوحيدِ على ربه ناطقاتٍ شاهدةً لِمُدَبِّرُهُ دالةً عليه مُرِشِدَةً إليه، إذا يجده مكوناً من قطره ماء لحوماً منضدة وعظاما مركبة وأوصالا متعددة مأسورة مشددة بحبال العروق والأعصاب قد قمطت وشدت وجمعت بجلد متين مشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلاً ما بين كبير وصغير وثخين ودقيق ومستطيل ومستدير ومستقيم." اهـ

 

وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ[1] فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} الآيات [آل عمران: 190،191]

 

تفسير الآية :

 

زاد المسير في علم التفسير (1/ 360) لابن الجوزي:

"أحدها: أن قريشاً قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا : عصاه ويده البيضاء.

وقالوا للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير عن ابن عباس.

والثانيْ: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]، 

قالت قريش : قد سوى بين آلهتنا، إئتنا بآية، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الضحى، واسمه: مُسلم بن صُبيح. فأما تفسير الآية، فقد سبق." اهـ

 

زاد المسير في علم التفسير (1/ 360_361) :

"قوله _تعالى_: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً)

في هذا الذكر، ثلاثة أقوال :

أحدها: أنه الذّكر في___الصّلاة، يصلي قائما، فإن لم يستطع، فعلى جنب، هذا قول علي، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة.

والثاني: أنه الذكر في الصلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين.

والثالث: أنه الخوف،

فالمعنى: يخافون الله قياماً في تصرفهم وقعوداً في دعتهم، وعلى جنوبهم في منامهم." اهـ

 

وقال الطبري في "جامع البيان" – ت. شاكر (7/ 474) باختصار:

"ومعنى الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [آل عمران: 190]،

الذاكرين الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم يعني بذلك: قيامًا في صلاتهم، وقعودًا في تشهدهم وفي غير صلاتهم، وعلى جنوبهم نيامًا.___

وإنما وصف _جل ثناؤه_:"أولي الألباب" الذين ذكرهم في هذه الآية: أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيّين، قالوا: "يا ربنا لم تخلُق هؤلاء باطلا عبثًا سبحانك"، يعني: تنزيهًا لك من أن تفعل شيئًا عبثًا، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر، لجنة أو نار.

ثم فَزِعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار، وأن لا يَجْعَلَهُمْ مِمَّنْ عَصَاهُ وخَالَفَ أَمْرَهُ، فيكونوا مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ." اهـ

 

وقال السعدي في "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 161):

"يخبر _تعالى_: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}،

وفي ضمن ذلك حثُّ الْعِبَادِ على التَّفَكُّرِ فِيْهَا، والتبَصُّرِ بآياتِهَا، وتدَبُّرِ خَلْقِهَا.

وأبهم قوله: {آيات}، ولم يقل: "على المطلب الفلاني" إشارةٌ لكثرتها وعمومها،

وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة ما يبهر الناظرين، ويقنع المتفكرين، ويجذب أفئدة الصادقين، وينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية،

فأما تفصيل ما اشتملت عليه، فلا يمكن لمخلوق أن يحصره، ويحيط ببعضه،

وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة، وانتظام السير والحركة، يدل على عظمة خالقها، وعظمة سلطانه وشمول قدرته. وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنع، ولطائف الفعل، يدل على حكمة الله ووضعه الأشياء مواضعها، وسعة علمه. وما فيها من المنافع للخلق، يدل على سعة رحمة الله، وعموم فضله، وشمول بره، ووجوب شكره.

وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها ومبدعها، وبذل الجهد في مرضاته، وأن لا يشرك به سواه، ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

وخص الله بالآيات أولي الألباب، وهم أهل العقول؛ لأنهم هم المنتفعون بها، الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم." اهـ

 

وقال أبو عبد الله القرطبي _رحمه الله_ في "تفسيره" = الجامع لأحكام القرآن (4/ 314_315):

"وَالْفِكْرَةُ : تَرَدُّدُ الْقَلْبِ فِي الشَّيْءِ،

يُقَالُ : "تَفَكَّرَ، وَرَجُلٌ فَكِيرٌ كَثِيرٌ الْفِكْرِ"،

وَإِنَّمَا التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ وَانْبِسَاطُ الذِّهْنِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ :

{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191].

وَحُكِيَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَأَى الْكَوَاكِبَ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَبُولُ الدَّمَ مِنْ طُولِ حُزْنِهِ وَفِكْرَتِهِ.

وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ :

قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ : "مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟" قَالَتْ : "كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ : التَّفَكُّرَ.

قِيلَ له : "أفترى التفكر عمل مِنَ الْأَعْمَالِ؟" قَالَ : "نَعَمْ، هُوَ الْيَقِينُ".

وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، قَالَ: "لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةً، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَالتَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: "تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ"، وَقَالَهُ ابْنُ الْعَبَّاسِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: "الْفِكْرَةُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ يَنْظُرُ فِيهَا إِلَى حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ. وَمِمَّا يَتَفَكَّرُ فِيهِ مَخَاوِفُ الْآخِرَةِ مِنَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَالنَّارِ وَعَذَابِهَا.

وَيُرْوَى: أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ أَخَذَ قَدَحَ الْمَاءِ لِيَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَعِنْدَهُ ضَيْفٌ، فَرَآهُ. لَمَّا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنِ الْقَدَحِ، أَقَامَ لِذَلِكَ مُتَفَكِّرًا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ،

فَقَالَ لَهُ : "مَا هَذَا يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟"

قَالَ : "إِنِّي لَمَّا طَرَحْتُ أُصْبُعِي فِي أُذُنِ الْقَدَحِ تَفَكَّرْتُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى" إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ" [المؤمن: 71]،

تَفَكَّرْتُ فِي حَالِي، وَكَيْفَ أَتَلَقَّى الْغُلَّ إِنْ طُرِحَ فِي عُنُقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا زِلْتُ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحْتُ."

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

"وَهَذَا نِهَايَةُ الْخَوْفِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَلَيْسَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، وَقِرَاءَةُ عِلْمِ كِتَابِ اللَّهِ _تَعَالَى_ وَمَعَانِي سنة رسول الله___ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ لِمَنْ يَفْهَمُ، وَيُرْجَى نَفْعُهُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا". اهـ[2]

 

وقال ابن القيم _رحمه الله_ في "الرسالة التبوكية" = "زاد المهاجر إلى ربه" (ص: 62):

"فصل: [التدبر والتفكير في آلاء الله]

ورأس الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات الله حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب،

فإذا صارت معاني القرآنِ مكانَ الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه، وصار له التصرف، وصار هو الأمير المطاع أمْرُه، فحينئذ يستقيم له سيره، ويتضِّحُ له الطريق، وتراه ساكنا، وهو يباري الريح {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]." اهـ[3]

 

 

 

 

 

 

وَقالَ تَعَالَى:

{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 18، 19، 20،21]

 

تفسير الآية :

 

تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (24/ 388)

"يقول _تعالى ذكره_ لِمُنكري قدرته على ما وصف في هذه السورة من العقاب والنكال الذي أعدّه لأهل عداوته، والنعيم والكرامة التي أعدّها لأهل ولايته:

أفلا ينظر هؤلاء المنكرون قُدرة الله على هذه الأمور، إلى الإبل كيف خلقها وسخرها لهم وذَلَّلها وجعلها تحمل حملها باركة، ثم تنهض به،

والذي خلق ذلك غيرُ عزيزٍ عليه أن يخلق ما وصف من هذه الأمور في الجنة والنار.

يقول _جلّ ثناؤه_: أفلا ينظرون إلى الإبل فيعتبرون بها، ويعلمون أن القُدرة التي قدر بها على خلقها، لن يُعجزه خلقُ ما شابهها.

 

تفسير القرطبي (20/ 34_35)

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْرَ أَهْلِ الدَّارَيْنِ، تَعَجَّبَ الْكُفَّارُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَّبُوا وَأَنْكَرُوا، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ صَنْعَتَهُ وَقُدْرَتَهُ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ على كل شي، كَمَا خَلَقَ الْحَيَوَانَاتِ وَالسَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْإِبِلَ أَوَّلًا، لِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ فِي الْعَرَبِ، وَلَمْ يروا الفيلة، فنبههم _جل___ثَنَاؤُهُ_ عَلَى عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِهِ، قَدْ ذَلَّلَهُ لِلصَّغِيرِ، يَقُودُهُ وَيُنِيخُهُ وَيُنْهِضُهُ وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ الثَّقِيلَ مِنَ الْحِمْلِ وَهُوَ بَارِكٌ، فَيَنْهَضُ بِثَقِيلِ حِمْلِهِ، وليس ذلك في شي مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِهِ. فَأَرَاهُمْ عَظِيمًا مِنْ خَلْقِهِ، مُسَخَّرًا لِصَغِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، يَدُلُّهُمْ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ.

 

تفسير القاسمي = محاسن التأويل (9/ 462):

"أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عزّ وجلّ، فلا ينظرون :

(إلى الإبل) التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين، إلى أنها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة به تأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة. وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى أن أظماءها لتبلغ العشر فصاعدا. واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. وفي انقيادها مع ذلك الإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير، (وَإِلَى السَّماءِ) التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار كَيْفَ رُفِعَتْ أي رفعت كواكبها رفعا سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكا لا يختل سيره ولا يفسده نظامه

(وَإِلَى الْجِبالِ) أي التي ينزلون في أقطارها كَيْفَ نُصِبَتْ أي أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها، حفظ للأرض من الميدان،

(وَإِلَى الْأَرْضِ) أي التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت ومهدت، حسبما يقتضيه صلاح أموره ما عليها من الخلائق." اهـ

 

وَقالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} الآية [محمد:10]

والآيات في الباب كثيرةٌ. ومِنْ الأحَاديث الحديث السَّابق: "الْكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَه".[4]

 

تفسير الآية :

 

تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 311):

"يَقُولُ _تَعَالَى_ : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ {فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أَيْ: عَاقَبَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، أَيْ: وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}." اهـ

 

وفي "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 785) للسعدي:

"أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب، فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة إلا وجدوا ما حولهم، قد بادوا وهلكوا، واستأصلهم التكذيب والكفر، فخمدوا، ودمر الله عليهم أموالهم وديارهم، بل دمر أعمالهم ومكرهم، وللكافرين في كل زمان ومكان، أمثال هذه العواقب الوخيمة، والعقوبات الذميمة.

وأما المؤمنون، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب، ويجزل لهم كثير الثواب." اهـ



[1] وفي زاد المسير في علم التفسير (1/ 361) لابن الجوزي :

"قوله _تعالى_ : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

قال ابن فارس : "الفكرة : تردد القلب في الشيء".

قال ابن عباس : "ركعتان مقتصدتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة، والقلب ساه." اهـ

وأثر ابن عباس : أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق (رقم : 288 و 1147)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (رقم :42 و 44)

[2] يعني: أن دأب أهل العلم تدبرُ كتابِ الله وسنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ والتفكرُ فيهما لأنه علم يؤدي إلى معرفة الله وشرعه، والله أعلم.

[3] وفي "تفسير القرطبي" (13/ 242):

"قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ هِيَ لِكَثْرَتِهَا كَأَنَّهَا جَامِدَةٌ أَيْ وَاقِفَةٌ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَنْفُسِهَا تَسِيرُ سَيْرَ السَّحَابِ، وَالسَّحَابُ الْمُتَرَاكِمُ يُظَنُّ أَنَّهَا وَاقِفَةٌ وَهِيَ تَسِيرُ، أَيْ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ حتى لا يبقى منها شي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20]،

وَيُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْجِبَالَ بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى تَفْرِيغِ الْأَرْضِ مِنْهَا، وَإِبْرَازِ مَا كَانَتْ تُوَارِيهِ، فَأَوَّلُ الصِّفَاتِ الِانْدِكَاكُ وَذَلِكَ قَبْلَ الزَّلْزَلَةِ، ثُمَّ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَذَلِكَ إِذَا صَارَتِ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} [المعارج: 8، 9]." اهـ

[4] قد مر بنا الحديث بـ(رقم : 66)

Komentar

Postingan populer dari blog ini

الحديث 12 من رياض الصالحين