شرح باب في التفَكُّرِ في عظيم مخلوقات الله تَعَالَى من رياض الصالحين
9- باب في التفَكُّرِ في
عظيم مخلوقات الله تَعَالَى_، وفناءِ الدنيا، وأهوال الآخرة، وسائر أمورهما،
وتقصيرِ النفس، وتهذيبِها، وحملها عَلَى الاستقامة |
وفي "المفردات في
غريب القرآن" (ص: 643) للراغب الأصفهاني :
"الْفِكْرَةُ:
قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتَّفَكُّرُ: جولان
تلك القوّةِ بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن
يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي: «تَفَكَّرُوا في آلاء الله ولا تَفَكَّرُوا في
الله»[1]
إذ كان الله
منزّها أن يوصف بصورة.[2]
قال تعالى : (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ) [الروم/ 8] ،
(أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف/ 184] ،
(إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد/ 3] ،
(يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)
[البقرة/ 219- 220]." اهـ
وقال الفيروزآبادي
_رحمه الله_ في بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (2/ 319_340):
"بصيرة
فى التذكر والتفكر:
التَّذكُر:
تَفعُّل من الذِّكرِ. والذِكرُ: هيئةُ للنَّفْس، بها يمكن للإِنسان أَن يحفظ ما
يقتنيه من المعرفة.
والفكرة:
قوّة مُطَرِّقة للعلم إِلى المعلوم. والتفكُّر غيره؛ فإِنَّ تلك القوّة بحسب نظر
العقل، وذلك للإِنسان دون الحيوان.
ولا يقال
إِلاَّ فيما يمكن أَن يَحصل له صورة فى القلب. ولهذا رُوِىَ "تَفَكّروا فى
آلاءِ الله، ولا تفكّروا فى ذاتِ اللهِ". إِذ كان الله منزَّهاً أَن يوصَف
بصورة.
قال _تعالى_:
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ}،
{أَوَلَمْ
يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} .
ثمّ اعلم
أَنَّ التذكُّر قرين الإِنابة. قال - تعالى -: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ
الألباب} .
والتَّذكُّر
والتفكُّر مَنْزلان يُثْمران أَنواع المعارف، وحقائق
الإِيمان والإِحسان. فالعارف لا يزال يَعُود تفكُّره على تذكُّره، وتذكُّره على
تفكُّره، حتى يُفتح قُفْل قلبه بإِذن الفتَّاح العليم.
قال الحسن
البصرىّ : ما زال أَهل العلم يعودون بالتذكر على التفكُّر، وبالتَّفكُّر على
التَّذكُّر، ويناطقون القلوب___حتى نطقت." اهـ
وقال الشريف
الجرجاني _رحمه الله_ في "التعريفات" (ص: 54):
"التدبر:
عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر؛ إلا
أن التفكر تَصَرُّفُ القَلْبِ بالنظر في الدليل، والتدبرُ:
تصرفه بالنظر في العواقب." اهـ
وقال الشريف
الجرجاني _رحمه الله_ في "التعريفات" (ص: 63):
"التفكر:
تصرف القلب في معاني الأشياء؛ لدرك المطلوب." اهـ
وقال المناوي في
"التوقيف على مهمات التعاريف" (ص: 104):
التفكر: طلب
الفكر، وهو يد النفس التي تنال بها المعلومات كما تنال بيد الجسم المحسوسات، ذكره
الحرالي.
وقال ابن
الكمال: (تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب)."
وفي "مدارج
السالكين" (1/ 439_440) لابن القيم :
"يَنْزِلُ
الْقَلْبُ مَنْزِلَ التَّذَكُّرِ وَهُوَ قَرِينُ الْإِنَابَةِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13] وَقَالَ {تَبْصِرَةً
وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]
وَهُوَ مِنْ
خَوَاصِّ أُولِي الْأَلْبَابِ،___
وَالتَّذَكُّرُ
وَالتَّفَكُّرُ مَنْزِلَانِ يُثْمِرَانِ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ، وَحَقَائِقَ
الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَالْعَارِفُ لَا يَزَالُ يَعُودُ بِتَفَكُّرِهِ
عَلَى تَذَكُّرِهِ، وَبِتَذَكُّرِهِ عَلَى تَفَكُّرِهِ، حَتَّى يُفْتَحَ قُفْلُ
قَلْبِهِ بِإِذْنِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ،
قَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ: مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى
التَّفَكُّرِ، وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَيُنَاطِقُونَ الْقُلُوبَ
حَتَّى نَطَقَتْ.
[تعليق]:
وفي
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 440_441):
"فَمَنْزِلَةُ
التَّذَكُّرِ مِنَ التَّفَكُّرِ مَنْزِلَةُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ
التَّفْتِيشِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ آيَاتُ اللَّهِ الْمَتْلُوَّةُ
وَالْمَشْهُودَةُ ذِكْرَى، كَمَا قَالَ فِي الْمَتْلُوَّةِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى
لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر: 53]،
وَقَالَ
عَنِ الْقُرْآنِ: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48]،
وَقَالَ
فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ
كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6] .___
فَالتَّبْصِرَةُ
آلَةُ الْبَصَرِ، وَالتَّذْكِرَةُ آلَةُ الذِّكْرِ، وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا
وَجَعَلَهُمَا لِأَهْلِ الْإِنَابَةِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَنَابَ إِلَى
اللَّهِ أَبْصَرَ مَوَاقِعَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ، فَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا
هِيَ آيَاتٌ لَهُ،
فَزَالَ
عَنْهُ الْإِعْرَاضُ بِالْإِنَابَةِ، وَالْعَمَى بِالتَّبْصِرَةِ، وَالْغَفْلَةُ
بِالتَّذْكِرَةِ، لِأَنَّ التَّبْصِرَةَ تُوجِبُ لَهُ حُصُولَ صُورَةِ
الْمَدْلُولِ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ غَفْلَتِهِ عَنْهَا، فَتَرْتِيبُ الْمَنَازِلِ
الثَّلَاثَةِ أَحْسَنُ تَرْتِيبٍ، ثُمَّ إِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَمُدُّ صَاحِبَهُ
وَيُقَوِّيهِ وَيُثَمِّرُهُ." اهـ
مفتاح دار
السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 213)
"فَاعْلَم
ان التفكر طلب الْقلب مَا لَيْسَ بحاصل من الْعُلُوم من أمْر هُوَ حَاصِل____مِنْهَا
هَذَا حَقِيقَته." اهـ
تنبيه
الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 570) :
"إِذَا
أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَنَالَ فَضْلَ التَّفَكُّرِ، فَلْيَتَفَكَّرَ فِي
خَمْسَةِ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا:
فِي الْآيَاتِ وَالْعَلَامَاتِ، وَالثَّانِي: فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَالثَّالِثُ:
فِي ثَوَابِهِ، وَالرَّابِعُ: فِي عَقْلِهِ، وَالْخَامِسُ: فِي إِحْسَانِهِ
إِلَيْهِ وَجَفَائِهِ لَهُ،
* فَأَمَّا
التَّفَكُّرُ فِي الْآيَاتِ وَالْعَلَامَاتِ: فَأَنْ
يَنْظُرَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ _تَعَالَى_ مِنَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا، وَغُرُوبِهَا
فِي مَغْرِبِهَا، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي خَلْقِ نَفْسِهِ،
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَفِي
الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}
[الذاريات: 20-21]
فَإِذَا
تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِي الْآيَاتِ وَالْعَلَامَاتِ يَزِيدُ بِهِ يَقِينًا
وَمَعْرِفَةً.
* وَأَمَّا
التَّفَكُّرُ فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ : فَأَنْ
يَنْظُرَ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَسُئِلَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، فَقَالَ : (كُلُّ
مَا ظَهَرَ، فَهُوَ الْآلَاءُ. وَمَا بَطَنَ، فَهُوَ النَّعْمَاءُ، وَمِثْلُ
ذَلِكَ: الْيَدَانِ آلَاؤُهُ، وَقُوَّةُ
الْيَدَيْنِ نَعْمَاؤُهُ. وَالْوَجْهُ آلَاؤُهُ،
وَحُسْنُ الْوَجْهِ، وَالْجَمَالُ نَعْمَاؤُهُ. وَالْفَمُ
آلَاؤُهُ، وَطَعْمُ الطَّعَامِ نَعْمَاؤُهُ، وَالرِّجْلَانِ آلَاؤُهُ،
وَالْمَشْيُ نَعْمَاؤُهُ،
فَإِذَا كَانَ
لِلْعَبْدِ رِجْلَانِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةُ الْمَشْيِ، فَقَدْ أُعْطِيَ
الْآلَاءَ، وَلَمْ يُعْطَ النَّعْمَاءَ. وَالْعُرُوقُ
وَالْعِظَامُ آلَاؤُهُ، وَصِحَّتُهَا وَسُكُونُهَا نَعْمَاؤُهُ)
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : "الْآلَاءُ إِيصَالُ النِّعْمَةِ، وَالنَّعْمَاءُ دَفْعَ
الْبَلِيَّةِ"، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَلَى ضِدِّ هَذَا.
وَيُقَالُ:
الْآلَاءُ وَالنَّعْمَاءُ وَاحِدٌ.
قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ،
فَإِذَا
تَفَكَّرَ الْإِنْسَانُ فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ يَزِيدُ الْمَحَبَّةَ،
* وَأَمَّا
التَّفَكُّرُ فِي ثَوَابِهِ: فَهُوَ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي
ثَوَابِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ، فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْكَرَامَاتِ،
فَإِنَّ
التَّفَكُّرَ فِي ثَوَابِهِ يَزِيدُهُ رَغْبَةً فِيهَا، وَاجْتِهَادًا فِي
طَلَبِهَا، وَقُوَّةً فِي طَاعَةِ رَبِّهِ،
* وَأَمَّا
التَّفَكُّرُ فِي عِقَابِهِ: فَهُوَ أَنْ يَتَفَكَّرَ
فِيمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ فِي النَّارِ مِنَ الْهَوَانِ،
وَالْعُقُوبَةِ، وَالنَّكَالِ،
فَإِنَّ
التَّفَكُّرَ فِي ذَلِكَ يَزِيدُهُ رَهْبَةً، وَيَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى
الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَعَاصِي.
* وَأَمَّا
التَّفَكُّرُ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ: فَهُوَ أَنْ
يَتَفَكَّرَ فِي إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا سَتَرَ عَلَيْهِ مِنْ
ذُنُوبِهِ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ بِهَا، وَدَعَاهُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَنْظُرُ
فِي جَفَاءِ نَفْسِهِ كَيْفَ تَرَكَ___أَوَامِرَهُ، وَارْتَكَبَ مَعَاصِيهِ،
فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي ذَلِكَ يَزِيدُ الْحَيَاءَ وَالْخَجَلَ." اهـ
ثم قال السمرقندي
في "تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين" (ص: 572):
وَلَا
يُتَفَكَّرُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ، فِيمَا سِوَى ذَلِكَ
وَسْوَسَةٌ.
قَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ: لَا تَتَفَكَّرْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
* لَا
تَتَفَكَّرْ فِي الْفَقْرِ فَيَكْثُرَ هَمُّكَ وَغَمُّكَ، وَيَزِيدَ فِي حِرْصِكَ،
* وَلَا
تَتَفَكَّرْ فِي ظُلْمِ مَنْ ظَلَمَكَ فَيَغْلُظَ قَلْبُكَ، وَيَكْثُرَ حِقْدُكَ،
وَيَدُومَ غَيْظُكَ،
* وَلَا
تَتَفَكَّرْ فِي طُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، فَتُحِبَّ الْجَمْعَ،
وَتُضَيِّعَ الْعُمْرَ، وَتُسَوِّفَ فِي الْعَمَلِ.
وَيُقَالُ: (أَصْلُ
الْوَرَعِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمَرْءُ قَلْبَهُ لِكَيْ لَا يَتَفَكَّرَ فِيمَا لَا
يَعْنِيهِ، فَكُلَّمَا ذَهَبَ قَلْبُهُ إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ، عَالَجَهُ حَتَّى
يَرُدَّهُ إِلَى مَا يَعْنِيهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْجِهَادِ، وَأَفْضَلُهُ،
وَأَشْغَلُهُ لِصَاحِبِهِ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ،
يُوشِكُ أَنْ لَا يَمْلِكَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ).
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: (تَمَامُ الْعِبَادَةِ فِي صِدْقِ النِّيَّةِ، وَتَمَامُ
صَلَاةِ الْعَمَلِ فِي التَّوَاضُعِ، وَتَمَامُ هَذَيْنِ بِالزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا، وَتَمَامُ هَذِهِ كُلُّهَا بِالْهَمِّ، وَالْحُزْنِ فِي أَمْرِ
الْآخِرَةِ، وَتَمَامُ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، مُلَازَمَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ
بِقَلْبِكَ، وَكَثْرَةُ التَّفَكُّرِ فِي ذُنُوبِكَ).
وَيُقَالُ:
أَخْلَاقُ الْأَبْدَالِ عَشْرَةُ أَشْيَاءَ[3]:
سَلَامَةُ
الصَّدْرِ، وَسَخَاوَةُ الْمَالِ، وَصِدْقُ اللِّسَانِ، وَتَوَاضُعُ النَّفْسِ،
وَالصَّبْرُ فِي الشِّدَّةِ، وَالْبُكَاءُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالنَّصِيحَةُ
لِلْخَلْقِ، وَالرَّحْمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّفَكُّرُ
فِي الْفَنَاءِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْأَشْيَاءَ."
وَقَالَ
مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ _رَحِمَهُ اللَّهُ_:
(مَنْ آوَى
إِلَى فِرَاشِهِ، يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيمَا
صَنَعَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ فِيهِ خَيْرًا، يَحْمَدُ اللَّهَ
تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ عَمِلَ ذَنْبًا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهُ،
وَرَجَعَ عَنْ قَرِيبٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، كَانَ كَمَثَلِ التَّاجِرِ الَّذِي
يُنْفِقُ، وَلَا يَحْسِبُ حَتَّى يُفْلِسَ وَلَا يَشْعُرُ).
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ:
(الْحِكْمَةُ
تُهَيِّجُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: بَدَنٌ فَارِغٌ مِنْ أَشْغَالِ
الدُّنْيَا.
وَالثَّانِي:
بَطْنٌ خَالٍ مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا.___
وَالثَّالِثُ:
يَدٌ خَالِيَةٌ مِنْ عُرُوضِ الدُّنْيَا،
وَالرَّابِعُ:
التَّفَكُّرُ فِي عَاقِبَةِ الدُّنْيَا، يَعْنِي
يَتَفَكَّرُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي كَيْفَ تَكُونُ
عَاقِبَتُهُ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ أَعْمَالَهُ تُتَقَبَّلُ مِنْهُ أَمْ لَا
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَقَبَّلُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا الطَّيِّبَ
[1] أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"
(6/ 250) (رقم: 6319)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ 2219) (رقم: 12111)،
أبو الشيخ الأصبهاني في "العظمة" (1/ 210) (رقم: 1)، واللالكائي في
"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (3/ 580) (رقم: 927)، والبيهقي في
"شعب الإيمان" (1/ 262) (رقم: 119). وحسنه الألباني في "سلسلة
الأحاديث الصحيحة" (4/ 395) (رقم: 1788)
[2] لو قال: (أن يُشَبَّهَ بصورة المخلوق)، لكان
أولى وأسلم، والله أعلم.
[3] وقال ابن تيمية _رحمه الله_ في جامع المسائل
لابن تيمية ط عالم الفوائد - المجموعة الثانية (ص: 67_68):
"وأما
لفظ "الأبدال"، فقد جاء ذِكرُه في كلامِ كثير من السلف: فلانٌ كان
يُعَدُّ من الأبدال. ولفظ "الأوتاد" (2) جاء في كلام بعضهم.
فأما
لفظ "الأبدال " فقد فُسِّر بثلاثِ معاني:
قيل:
سُمُّوا أبدالاً لأنهم أبدالٌ عن الأنبياء، وهذا المعنى صحيح.
فإن
الأنبياء،/لهم خُلَفاء، كما كان الخلفاء الراشدون خلفاءَ للنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد كان له في حياتِه ولغيرِه من الأنبياء خلفاءُ في أمرٍ
دونَ أمرٍ، فإنه كان إذا خرجَ في غَزْوٍ أو حَجٍّ أو عُمرةٍ استخلفَ على المدينة
بعضَ أصحابه، كما كان يَستخلف ابنَ أمّ مكتوم وغيره، واستخلف علي بن أبي طالب [في]
غزوة تبوك، وكان قد خرج معه عامة أصحابه، ولم يبق بالمدينة من المؤمنين إلاّ
معذور، غير الثلاثة الذين خُلِّفوا، فخرج إليه على، فقال: يا رسولَ الله،
أتَدَعُنِي مع النساءِ والصبيان؟ فقال: "أما تَرضَى أن تكونَ منّي بمنزلة
هارون من موسى؟ " (3) وقد قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ___
فاستخلف
موسى هارون مدةَ ذهابِه للميقات إلى أن عاد.
وكذلك
كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته وُلاةٌ على الأمْصَار
كعتَاب بن أَسِيد وخالد بن سعيد وغيرهما، وسُعَاةٌ على الصدقات ونُواب في التعليم،
كمعاذٍ وأبي موسى، وكلٌّ من هؤلاء خليفة له وبدل عنه في بعض الأمور دونَ بعضٍ.
وجاء
في حديثٍ وصفُ الذين يُحيون السنَّةَ ويُعلِّمونها الناسَ بأنهم خلفاءُ النبي (1)،
وللأنبياء أيضًا ورثة كما في الحديث المشهور في السنن: "العلماء ورثةُ
الأنبياء" (2). والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال
بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامَهم في بعض الأمر
فقد خلفهم في ذلك على البدلية، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهمِ في
ذلك." اهـ
Komentar
Posting Komentar