شرح الحديث 86 - باب الاستقامة من رياض الصالحين

[86] وعن أبي هريرةَ _رضي الله عنه_ قَالَ:

قَالَ رَسُول الله _صلى الله عليه وسلم_:

«قَارِبُوا، وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بعَمَلِهِ»

قالُوا : "وَلا أَنْتَ يَا رَسُول الله؟"

قَالَ : «وَلا أنا إلا أنْ يَتَغَمَّدَني الله برَحمَةٍ مِنهُ وَفَضْلٍ» . رواه مسلم.

 

وَ«المُقَاربَةُ»: القَصدُ الَّذِي لا غُلُوَّ فِيهِ وَلا تَقْصيرَ، وَ«السَّدادُ»: الاستقامة والإصابة. وَ«يتَغَمَّدني»: يلبسني ويسترني.

قَالَ العلماءُ: مَعنَى الاستقامَةِ لُزُومُ طَاعَةِ الله تَعَالَى، قالوا: وهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِم، وَهِيَ نِظَامُ الأُمُورِ؛ وبِاللهِ التَّوفِيقُ.

 

ترجمة أبي هريرة الدوسي:

 

"اختلف فِي اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا، فقيل: اسمه عبد الرحمن بْن صخر بن  ذي الشري بْن طريف بْن عيان بْن أَبي صعب بْن هنية بْن سعد ابن ثعلبة بْن سليم بْن فهم بْن غنم بْن دوس بْن عدثان بن عَبد الله بن زهران بن كعب بن الْحَارِثِ بْن كعب بْن عَبد اللَّهِ بن مالك ابن نصر بْن الأزد." اهـ

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (34/ 366_367) للمزي:

"ويُقال: كَانَ اسمه فِي الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود...وروي عَنْهُ أنه قال، إنما كنيت بأبي هُرَيْرة أني وجدت أولاد هرة وحشية فحملتها فِي كمي، فقيل: ما هَذِهِ؟ فقلت: هرة، قِيلَ فأنت أَبُو هُرَيْرة.

وذكر أَبُو القاسم الطبراني أن اسم أمه ميمونة بنت صبيح." اهـ

 

وفي "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (34/ 377):

"وَقَال عَمْرو بْن علي: نزل المدينة، وكان مقدمه وإسلامه عام خيبر، وكانت خيبر فِي المحرم سنة سبع."اهـ

 

وفي "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (34/ 378):

"قال سفيان بْن عُيَيْنَة، عن هشام بْن عروة: مات أَبُو هُرَيْرة، وعائشة سنة سبع وخمسين.

وَقَال أَبُو الحسن المدائني، وعلي ابن المديني، ويحيى بْن بكير، وخليفة بْن خياط، وعَمْرو بْن علي: مات أَبُو هُرَيْرة سنة سبع وخمسين." اهـ

 

وفي "تاريخ الإسلام" – ت. بشار (2/ 561) للذهبي:

"قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى عَنْهُ: ثمان مائة رَجُلٌ أَوْ أكثر.

قلت: روي لَهُ نَحْو من خمسة آلاف حديث وثلاث مائة وسبعين حديثًا (5370). في الصحيحين منها ثلاث مائة وخمسة وعشرون حديثًا (325)، وانفرد الْبُخَارِيُّ أيضًا لَهُ بثلاثة وتسعين (93)، ومسلم بمائة وتسعين (190)." اهـ

 

نص الحديث وشرحه:

 

وعن أبي هريرةَ _رضي الله عنه_ قَالَ:

قَالَ رَسُول الله _صلى الله عليه وسلم_:

«قَارِبُوا،

 

وفي "فتح الباري" لابن حجر (11/ 297):

"قَوْلُهُ: (وَقَارِبُوا)، أَيْ: لَا تُفْرِطُوا، فَتُجْهِدُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْعِبَادَةِ لِئَلَّا يُفْضِيَ بِكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْمَلَالِ فَتَتْرُكُوا الْعَمَلَ فَتُفَرِّطُوا." اهـ

 

وَسَدِّدُوا،

 

وفي "فتح الباري" لابن حجر (11/ 297):

"(سَدِّدُوا)، وَمَعْنَاهُ : اقْصِدُوا السَّدَادَ أَيِ الصَّوَابَ.

 

وفي "فتح الباري" لابن حجر (11/ 300):

"قَالَ ابن حَزْمٍ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ الْبُخَارِيِّ:

"مَعْنَى الْأَمْرِ بِالسَّدَادِ وَالْمُقَارَبَةِ أَنَّهُ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بُعِثَ مُيَسِّرًا مُسَهِّلًا، فَأَمَرَ أُمَّتَهُ بِأَنْ يَقْتَصِدُوا فِي الْأُمُورِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِدَامَةَ عَادَةً." اهـ

 

وقال ابن هبيرة _رحمه الله_ في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (7/ 325):

"وقوله: {فسددوا}:التسديد: التصويب، مأخوذ من تسديد السهام إلى الأغراض، أي كونوا حراصًا على إصابة الحق ومتابعة الرسول، فإن لم تقدروا على ذلك فقاربوا ذلك، لأنه بدأ بالتسديد ثم أتبعه بالمقاربة، ثم أتبع ذلك بالبشرى لمن سدد وقارب." اهـ

 

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بعَمَلِهِ»

 

وفي "فتح الباري" لابن حجر (11/ 297):

"وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ: أَنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنَ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ نَفْيُ فَائِدَةِ الْعَمَلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُدْخِلُ الْعَامِلَ الْجَنَّةَ، فَاعْمَلُوا وَاقْصِدُوا بِعَمَلِكُمُ الصَّوَابَ، أَيْ: اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِهِ لِيَقْبَلَ عَمَلَكُمْ، فَيُنْزِلَ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَةَ." اهـ

 

وفي "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149_150):

"ومعنى الحديث: النهي عن التشديد في الدين بأن يحمل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ (لن يُشَادَّ الدينَ أحدٌ، إلا غلبه)، يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة، فمن شاد الدين، غلبه وقطعه." اهـ

 

وفي "فتح الباري" لابن رجب (1/ 151):

"وقيل: أراد (التسديد): العملَ بالسداد - وهو القصد والتوسط في العبادة -، فلاَ يُقَصِّرُ فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه. قال النضر بن شميل: السداد: القصد في الدين والسبيل، وكذلك___(المقاربة) المراد بهما: التوسط بين التفريط والإفراط، فهما كلمتان بمعنى واحد.

وقيل: بل المراد بـ(التسديد): التوسط في الطاعات بالنسبة إلى الواجبات والمندوبات، وبالمقاربة: الاقتصار على الواجبات. وقيل فيهما غير ذلك." اهـ

 

قالُوا : "وَلا أَنْتَ يَا رَسُول الله؟"

 

وفي "فتح الباري" لابن حجر (11/ 297):

"قَوْلُهُ (قَالُوا: "وَلَا أَنْتَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ)، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : "إِذَا كَانَ كُلُّ النَّاسِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَوَجْهُ تَخْصِيصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْطُوعًا لَهُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَغَيْرُهُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى." قُلْتُ: وَسَبَقَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى الرَّافِعِيُّ فِي أَمَالِيه."

 

قَالَ: «وَلا أنا إلا أنْ يَتَغَمَّدَني الله برَحمَةٍ مِنهُ وَفَضْلٍ» . رواه مسلم.

 

وفي فتح الباري لابن حجر (11/ 297): "فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ: (إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَنِي)[1]." اهـ

 

وَ «المُقَاربَةُ»: القَصدُ الَّذِي لا غُلُوَّ فِيهِ وَلا تَقْصيرَ، وَ«السَّدادُ»: الاستقامة والإصابة. وَ «يتَغَمَّدني» : يلبسني ويسترني.

قَالَ العلماءُ: مَعنَى الاستقامَةِ لُزُومُ طَاعَةِ الله تَعَالَى، قالوا: وهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِم، وَهِيَ نِظَامُ الأُمُورِ؛ وبِاللهِ التَّوفِيقُ.

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه البخاري في صحيحه (7/ 121) (رقم : 5673)، ومسلم في في صحيحه (4/ 2170) (رقم : 2816)، وابن ماجه في سننه (2/ 1405) (رقم : 4201)

 

من فوائد الحديث :

 

قال ابن هبيرة _رحمه الله_ في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (6/ 249_250):

* في هذا الحديث من الفقه: أنه بشرى للمؤمن أنه لو كانت أعمال المؤمنين تدخلهم الجنة لكانت توازي أمدًا معلومًا، ثم ينقطع،

فلما كانت الإحالة___على الرحمة دل ذلك على أنهم مخلدون بالرحمة، وتمتد لهم فلا تنزع منهم أبدًا.

* وفيه أيضًا: أن العمل لا ينجي من سخط الله؛ وذلك لأن انتقام الله _سبحانه_ لا يُقَاوِمُهُ عَمَلُ عامِلٍ، وإنما يدفع العظيم بالعظيم، والأعمال التي نعلمها مِنْ مَنِّ الله علينا بأن وفقنا لها، وأخبرنا أن أعمالنا ما يرضاه، فإذا أدخل أهل الجنة، وجاد عليهم بمنه الواسع؛ فذكروا ما كان منهم من الأعمال التي أخبر أنها له رضى، استلذوا بذكرها في تلك الأحوال، كما أن الشهيد إذا أكرمه الله بالكرامة العظمى وغمره من الجود لما يخجله من ذكر التقصير في الشكر، ذكر أنه قطع السيوف في الجهاد فوجد لذلك التقطيع لذة لا يتخذها في الجنة." اهـ

 

وقال ابن علان الصديقي _رحمه الله_ في "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (2/ 291):

"قال المصنف في «شرح مسلم»:

مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثوابٌ ولا عقابٌ ولا حكمٌ شرعيٌ، ولا يثْبُتُ ذلك كلُّهُ، إلا بالشرع. ومذهبهم: أن الله _تعالى_ لا يجب عليه شيْءٌ، بل الدنيا والآخرة مُلْكُهُ، يَفْعَلُ ما يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ،

فلوْ عذَّب الْمُطِيْعِيْنَ جميْعَهُمْ، وأدخلهم النار لكان عدلاً منه، ولو نَعَّمَ الكافرِيْنَ، وأَدْخَلَهُمُ الجنةَ، كان له ذلك، ولكنه أَخْبَرَ - وخَبَرُهُ صِدْقٌ - أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه." اهـ

 

وقال ابن علان الصديقي _رحمه الله_ في "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (2/ 291) نقلا عن النووي:

"وفي هذا الحديث: دليلٌ ظاهرٌ لما قلناه من أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. وأما قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، ونَحْوُهَا من الآيات الدالَّة على أن الأعمال يدخل بها الجنة، فهي لا تُعَارِضُ هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله وفضله،

فصحّ أنه لم يدخل الجنة أحد بمجرد العمل، وهو مراد الأحاديث.

ويصح أن يقال: إنه دخل بالأعمال المسببة عن الفضل: أي: بسببها وهي من الرحمة. اهـ ملخصاً." اهـ

 

وقال الشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك الحريملي _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 80):

"في هذا الحديث: دلالةٌ على أنه ليس أحد من الخلْق يقدر على توفية حق الربوبية. لقوله _صلى الله عليه وسلم_:

«ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل»،

ولكن الأعمال سببٌ لدخول الجنة. كما قال تعالى: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل (32) ]،

والتوفيق للأعمال الصالحة من فضل الله ورحمته." اهـ

 

وقال ابن علان في "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (2/ 291) :

"وأشار العارف بالله _تعالى_ ابن أبي جمرة إلى جواب آخر:

حاصله: أن الأعمال أسباب عادية كسائر الأسباب التي هي من مقتضيات الحكمة، ولا تأثير لها في دخول الجنة، فالنفي باعتبار التأثير بمعنى أن الذي يؤثر في دخول الجنة في الحقيقة إنما هو اللهُ _تعالى_، لا الأعمالُ، فإنما هي مجرد أسباب صورية اقتضتها الحكمة الإلهية والإسناد إليها تارة باعتبار أنها سبب صوري، وسيأتي في باب بيان طرق الخير أجوبة أخرى." اهـ

 

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 291)

قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث دلالة على أنه ليس أحد من الخلق يقدر على توفية حق الربوبية على ما يجب لها.

يؤخذ ذلك من قوله: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته»

فإذا كان هو وهو خير البشر وصاحب المقامات العلا لا يقدر على ذلك فالغير أحرى وأولى. وإذا تأملت ذلك من جهة النظر تجده مدركاً حقيقة لأنه إذا طالبنا بشكر النعم التي أنعم علينا عجزنا عنه بالقطع ومنها ما لا نعرفه كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (ابراهيم: 34) فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات فما بقي إلا ما أخبر به الصادق وهو التغمد بالفضل والرحمة." اهـ

 

وفي "شرح رياض الصالحين" (1/ 573) للعثيمين :

"هذا الحديث يدل علي أن الاستقامة علي حسب الاستطاعة، وهو قول النبي صلي الله عليه وسلم ((قاربوا وسددوا)) أي: سددوا علي الإصابة، أي: احرصوا علي أن تكون أعمالكم مصيبة للحق بقدر المستطاع، وذلك لان الإنسان مهما بلغ من التقوى، فانه لابد أن يخطئ،

كما جاء في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون))،

وقال _عليه الصلاة___والسلام_:

((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجا بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) [م][2]،

فالإنسان مأمور أن يقارب ويسدد بغدر ما يستطيع." اهـ

 

وقال العثيمين في "شرح رياض الصالحين" (1/ 574_575):

"((إلا أن يتغمدني الله برحمة منه))،

فدل ذلك علي أن الإنسان مهما بلغ من المرتبة والولاية، فانه لن ينجو بعمله، حتى النبيُّ _عليه الصلاة والسلام_، لولا أن الله من عليه بان غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، ما أنجاه عمله.

فان قال قائل: هناك نصوص من الكتاب والسنة تدل علي أن العمل الصالح ينجي من النار ويدخل الجنة، مثل قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97) ،

فكيف يجمع بين هذا وبين الحديث السابق؟___

والجواب عن ذلك: أن يقال: يُجْمَعُ بينهما بان المنفي دخول الإنسان الجنةَ بالعمل في المقابلة، أما المثبت: فهو أن العمل سبب، وليس عوضا.

فالعمل_ لا شك_ انه سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، لكنه ليس هو العوض، وليس وحده الذي يدخل به الإنسان الجنة، ولكن فضل الله ورحمته هما السبب في دخول الجنة وهما اللذان يوصلان الإنسان إلى الجنة وينجيانه من النار." اهـ[3]

 

وقال حافظ بن أحمد بن علي الحكمي (المتوفى: 1377هـ) _رحمه الله_ في "أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة" (ص: 77):

"لا منافاة بينهما بحمد الله فإن الباء المثبتة في الآية هي باء السببية لأن الأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة، لا يحصل إلا بها إذ المسبب وجوده بوجود سببه، والمنفي في الحديث هي باء الثمنية، فإن العبْدَ، لَوْ عُمِّرَ عُمْرَ الدُّنيا، وهو يصوم النهار، ويقوم الليل، ويجتنب المعاصيَ كُلَّها، لم يقابل كل عمله عُشْرَ مِعْشَارِ أَصْغَرِ نِعَمِ الله عليه الظاهرةِ والباطنةِ، فكيف تكونُ ثَمَنًا لدخولِ الجنةِ، {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118]." اهـ

 

وقال العثيمين _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 575):

"وفي هذا الحديث من الفوائد:

* أن الإنسان لا يعجب بعمله، مهما عملت من الأعمال الصالحة لا تعجب بعملك، فعملك قليل بالنسبة لحق الله عليك. وفيه أيضا من الفوائد: انه ينبغي علي الإنسان أن يكثر من ذكر الله دائما: ((اللهم تغمدني برحمة منك وفضل)) لان عملك لن يوصلك إلي مرضاة الله، إلا برحمة الله عز وجل." اهـ

 

وقال العثيمين _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 575):

"وفيه: دليل على حرص الصحابة_ رضي الله عنهم_ علي العلم،

ولهذا لما قال: ((لن ينجوا أحد منكم بعمله)) استفصلوا، هل هذا العموم شامل له أم لا؟ فبين لهم _صلى الله عليه وسلم_ أنَّهُ شامل له.

ومن تدبر أحوال الصحابة_ رضي الله عنهم_ مع النبي _صلى الله عليه وسلم_، وجد أنهم أحرَصُ الناسِ على العلم، وأنهم لا يتركون شيئًا يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم إلا ابتدروه وسألوا عنه، والله الموفق." اهـ

 

وقال ابن القيم _رحمه الله_ في "مدارج السالكين" (2/ 105):

"وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْعَبْدِ: الِاسْتِقَامَةُ. وَهِيَ السَّدَادُ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَالْمُقَارَبَةُ. فَإِنْ نَزَلَ عَنْهَا: فَالتَّفْرِيطُ وَالْإِضَاعَةُ." اهـ

 

وقال ابن حبان البستي في "صحيحه" (2/ 60):

"ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْأُمُورِ وَتَرْكِ الِاتِّكَالِ عَلَى الطَّاعَاتِ." اهـ

 

وقال ابن حبان البستي في "صحيحه" (2/ 435):

"ذِكْرُ الْإِخْبَارِ عَمَّا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ مِنْ تَرْكِ الِاتِّكَالِ عَلَى مَوْجُودِ الطَّاعَاتِ، دُونَ التَّسَلُّقِ بِالِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ." اهـ

 

وقال الإثيوبي _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (43/ 516):

"في فوائده:

1 - (منها): بيان أن دخول الجنّة برحمة من الله سبحانه وتعالى، وفضل، لا بالعمل

الصالح، وسيأتي التوفيق بين هذا الحديث وبين آية: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وغيرها من الآيات في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

2 - (ومنها): أنه لا ينبغي للعبد أن يعتمد على أعماله الصالحة، بل الواجب أن يعتمد على ربه سبحانه وتعالى، مع اجتهاده في الأعمال.

3 - (ومنها): أن فيه حجةً لمذهب أهل السُّنَّة أن الله تعالى لا يجب عليه شيء من الأشياء، لا ثواب، ولا غيره، بل العالم مُلكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذّب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخَلَهم النار كان عدلًا منه، وإذا أكرمهم، ونعَّمهم، وأدخلهم الجنة، فهو بفضل منه، ولو نَعَّم الكافرين، وأدخلهم الجنة، كان له ذلك، لكنه أخبر، وخبره صِدق، أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين، وُيدخلهم الجنة برحمته، ويعذِّب الكافرين، وُبدخلهم النار عدلًا منه، فمن نجا، ودخل الجنة، فليس بعمله؛ لأنه لا يستحقّ على الله تعالى بعمله شيئًا، وإنما هو برحمة الله تعالى وفضله، وذهبت المعتزلة إلى إيجاب ثواب الأعمال على الله تعالى، وحَكَّموا العقل، وأوجبوا مراعاة الأصلح، ولهم في ذلك خبط عريض، تعالى الله عز وجل عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع، قاله وليّ الدين

العراقيّ _رحمه اللهُ_." ["طرح التثريب" (9/ 172)] اهـ

 

الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 119_121):

"فالسعادة التوفيقية هي الهداية، والرشد، والتسديد، والتأييد.

فيجب أن يعلم أن لا سبيل لأحد إلى شيء من الفضائل إلا بهداية اللَّه تعالى ورحمته، فهو مبدأ الخيرات ومنتهاها، كما قال تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)

وخاطب الناس فقال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) .

وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله "، أي: بهدايته.

قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه، فقال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته وهدايته "، تنبيهًا أنه لو توهمت رحمته مرتفعة ابتداءً وانتهاءً ما كان لنا سبيل إلى ذلك.

وللهداية ثلاث منازل في الدنيا:

الأول: تعريف طريق الخير والشر المشار إليهما بقوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

وقد خوَّل اللَّه تعالى الهدى كل مكلف، بعضه بالعقل، وبعضه بألسنة

الرسل، وإياه عني بقوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) .

والثاني: ما يمد به العبد حالا فحالًا بحسب استزادته من العلم والعمل

الصالح، وإياه عني بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) .

والثالث: نور الولاية التي هي في أفق نور النبوة، وإياه عني بقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)

فأضاف ذلك إلى لفظ اللَّه تعظيما له،. ثم قال: (هُوَ الْهُدَى) فجعله الهدى المطلق (وعناه) بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)، أي: نورًا تفرقون به بين الحق والباطل،

وكل ذلك يسمى النور والحياة نحو: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا) .

وقال: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) .

وقد روي أن يوسف رأى صورة يعقوب - صلى الله عليه وسلم - وهو عاضٌّ على إبهامه، فأحجم، وليس ذلك ينافي التكليف كما تصوره بعض المتكلمين، فإن ذلك كان تصوَّرًا منه وتذكرًا لما كان قد حذره منه، وعلى هذا قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

ومن عصمته تعالى أنه يكرر الوعيد على من يريد عصمته لئلا يغفل ساعة عن مراعاة نفسه، كقوله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) .

واعلما أن رشده تعالى للعبد، وتسديده، ونصرته، وعصمته، تكون بما يخوله من الفهم الثاقب، والسمع الواعي، والقلب المراعي، وتقييض المعلم الناصح له، والرفيق الموافق، وإمداده من المال بما لا تقعد به عن مغزاه قلته، ولا تشغل عنه كثرته، ومن العشيرة والعز ما يصونه عن سفه السفهاء، وعن الغض منه من جهلة الأغنياء، وأن يخوله من كبر الهمة،

وقوة العزيمة ما يحفظه عن التشوق للدنية، والتأخر عن بلوغ كل منزلة سنية." اهـ



[1] أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/ 2170/ 74) (رقم: 2816):

"حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ أَحَدٌ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ»

وأخرجه: البيهقي في "شعب الإيمان" (6/ 344) (رقم: 4305)، وابن عساكر في "المعجم" (1/ 83) (رقم: 85).

[2] أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 2106) (رقم : 2749).

[3]

 


Komentar

Postingan populer dari blog ini

الحديث 12 من رياض الصالحين