شرح الحديث 121-122 من صحيح الترغيب لأبي فائزة البوجيسي

 

121 - (2) [حسن صحيح] وعن عبد الله بن عمروٍ؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

"من كتمَ علماً؛ ألجمَهُ الله يومَ القيامة بلجامٍ من نارٍ".

رواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وقال:

"صحيح لا غبار عليه".

 

ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي _رضي الله عنهما_

 

قال خير الدين الزركلي _رحمه الله_ في "الأعلام" (4/ 111):

"عَبْد الله بن عَمْرو (7 ق هـ - 65 هـ = 616 - 684 م)

عبد الله بن عمرو بن العاص، من قريش:___صحابي من النساك. من أهل مكة. كان يكتب في الجاهلية، ويحسن السريانية. وأسلم قبل أبيه.

فاستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أن يكتب ما يسمع منه، فأذن له. وكان كثير العبادة حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لجسدك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا) الحديثَ.

وكان يشهد الحروب والغزوات. ويضرب بسيفين. وحمل راية أبيه يوم اليرموك. وشهد صفين مع معاوية. وولاه معاويةُ الكوفةَ مدةً قصيرةً.

ولما ولي مزيد امتنع عبد الله من بيعته، وانزوى - في إحدى الروايات - بجهة عسقلان، منقطعا للعبادة.

وعمي في آخر حياته. واختلفوا في مكان وفاته. له 700 حديثٍ." اهـ

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (1/ 298) (رقم: 96)، وأبو العباس الأصم كما في "مجموع فيه مصنفات أبي العباس الأصم وإسماعيل الصفار" (ص: 194) (رقم: 383)، والطبراني في "المعجم الكبير" (13/ 20) (رقم: 33)، وفي "المعجم الأوسط" (5/ 186) (رقم: 5027)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (1/ 182) (رقم: 346)، وأبو نعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (1/ 41) (رقم: 14)، وفي "الضعفاء" (ص: 50)، والخطيب في "تاريخ بغداد" – ت. بشار (6/ 183) (رقم: 1698)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (ص: 347) (رقم: 575)، وأبو إسماعيل الهروي في "الأربعون في دلائل التوحيد" (ص: 43) (رقم: 3)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 9_10) (رقم: 7_8)، والشَّجَرِيُّ كما في "ترتيب الأمالي الخميسية" (1/ 61) (رقم: 215).

 

قال ابن القيم _رحمه الله تعالى_ في "تهذيب سنن أبي داود" (5/ 252):

"وقد ظنَّ أبو الفرج ابنُ الجوزي أنَّ هذا هو ابن وهب النسوي، الذي قال فيه ابنُ حبان "يضع الحديث"؛ فضعَّفَ الحديثَ به، وهذا مِنْ غلطاتِهِ، بل هو ابنُ وهبٍ، الإمام العلم،

والدليلُ عليه: أن الحديث مِنْ رواية أصبغ بن الفرج، ومحمد ابن عبد الله بن الحكم وغيرهما مِنْ أصحاب ابن وهبٍ عنه، والنسويُّ متأخرٌ: مِنْ طبقة يحيى بن صاعد. والعجب مِنْ أبي الفرج: كيف خفيَ عليه هذا، وقد ساقَهَا مِنْ طريق أصبغ وابن عبد الحكم، عن ابن وهبٍ". اهـ

 

والحديث حسن صحيح: صرح بذلك الألباني _رحمه الله_ في "صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" (1/ 129) (رقم: 83)، و"صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1111) (رقم: 6517)، و"التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" (1/ 207) (رقم: 96).

 

فوائد الحديث:

 

قال ابن تيمية _رحمه الله_ في "قاعدة جليلةٍ في التوسل والوسيلة" – ت. المدخلي (1/ 62) (رقم: 175) ط. الفرقان:

"وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ يَجِبُ بَذْلُهُ فَمَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّه بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ يَزْكُو عَلَى التَّعْلِيمِ لَا يَنْقُصُ بِالتَّعْلِيمِ كَمَا تَنْقُصُ الْأَمْوَالُ بِالْبَذْلِ وَلِهَذَا يُشَبَّهُ بِالْمِصْبَاحِ." اهـ، وانظر: مجموع الفتاوى (1/ 185)

 

تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (3/ 228)

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا»

قد سبق بنا الحديْثُ وفوائدُه في الحديث السابق

122 - (3) [حسن صحيح] وعن أبي هريرة:

أنّ رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ قال:

"مثلُ الذي يَتَعلّم العلمَ ثم لا يحدِّثُ به، كمثلِ الذي يَكنِزُ الكنزَ ثم لا يُنفِقُ منه".

رواه الطبراني في "الأوسط"، وفي إسناده ابن لهيعة (1).

__________

(1) يعني: وهو ضعيف، ولكنه من رواية ابن وهب عنه عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم وعبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة.

وهذا إسناد حسن، لأن ابن لهيعة صحيحُ الحديثِ برواية ابْنِ وهب. ودراجٌ حَسَنُ الحديثِ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ، كما قررته في المقدمة (ص 7)، وله طرق وشواهد يزداد بها قوة، وهي مخرجة في "الصحيحة" (3479).

 

ترجمة الصحابي أبي هريرة _رضي الله عنه_:

 

الأعلام للزركلي (3/ 308)

أَبُو هُرَيْرَة (21 ق هـ - 59 هـ = 602 - 679 م)

عبد الرحمن بن صخر الدوسي، الملقب بـ"أبي هريرة": صحابي، كان أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له. نشأ يتيما ضعيفا في الجاهلية، وقدم المدينة، ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر، فأسلم سنة 7 هـ ولزم صحبة النبي،

فروى عنه 5374 حديثا، نقلها عن أبي هريرة أكثرُ من 800 رجلٍ بين صحابي وتابعي. وولي إمرة المدينة مدة.

ولما صارت الخلافة إلى عمر، استعمله على البحرين، ثم رآه ليّن العريكة مشغولا بالعبادة، فعزله. وأراده بعد زمن على العمل، فأبى.

وكان أكثر مقامه في المدينة وتوفي فيها. وكان يفتي، وقد جمع شيخ الإسلام تَقِيّ الدِّين السُّبْكي جزءًا سُمِّيَ (فَتَاوَي أبي هريرة)." اهـ

 

قلت: وللشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي (ت. 1418 هـ) _رحمه الله_ كتابٌ قيمٌ سماه بـ"دفاع عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ وإزالة الشكوك والشبهات حوله وحول مروياته دراسة نقدية وتحليلية"

 

نص الحديث وشرحه:

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

«مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ، ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ، كَمَثَلِ الَّذِي يَكْنِزُ الْكَنْزَ، فَلَا يُنْفِقُ مِنْهُ»

رواه الطبراني في "الأوسط"، وفي إسناده ابن لهيعة

 

وفي "أخلاق العلماء" للآجري (ص: 29_31):

عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ قَالَ:

بَلَغَنَا أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ___كَتَبَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_:

* «إِنَّ الْعِلْمَ كَالْيَنَابِيعِ يَغْشَى النَّاسَ فَيَخْتَلِجُهُ هَذَا، وَهَذَا، فَيَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ.

* وَإِنَّ حِكْمَةً لَا يُتَكَلَّمُ بِهَا، كَجَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ،

* وَإِنَّ عِلْمًا لَا يُخْرَجُ كَكَنْزٍ لَا يُنْفَقُ،

* وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُعَلِّمِ كَمَثَلِ رَجُلٍ عَمِلَ سِرَاجًا فِي طَرِيقٍ مُظْلِمٍ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ مَرَّ بِهِ وَكُلٌّ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ»

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:

«فَمَا ظَنُّكُمْ _رَحِمَكُمُ اللَّهُ_ بِطَرِيقٍ فِيهِ آفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَيَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى سُلُوكِهِ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِصْبَاحٌ، وَإِلَّا تَحَيَّرُوا، فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُمْ فِيهِ مَصَابِيحَ تُضِيءُ لَهُمْ، فَسَلَكُوهُ عَلَى السَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ.

ثُمَّ جَاءَتْ طَبَقَاتٌ مِنَ النَّاسِ، لَابُدَّ لَهُمْ مِنَ السُّلُوكِ فِيهِ، فَسَلَكُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ طُفِئَتِ الْمَصَابِيحُ، فَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ. فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِمْ؟

هَكَذَا الْعُلَمَاءُ___فِي النَّاسِ، لَا يَعْلَمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَيْفَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَكَيْفَ اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، وَلَا كَيْفَ يُعْبَدُ اللَّهُ فِي جَمِيعِ مَا يَعْبُدُهُ بِهِ خَلْقُهُ، إِلَّا بِبَقَاءِ الْعُلَمَاءِ.

فَإِذَا مَاتَ الْعُلَمَاءُ تَحَيَّرَ النَّاسُ، وَدَرَسَ الْعِلْمُ بِمَوْتِهِمْ، وَظَهَرَ الْجَهْلُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ‍ مُصِيبَةٌ مَا أَعْظَمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؟»." اهـ

 

عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال:

"علمٌ لا يُقال به ككنزٍ لا ينفق منه".

أخرجه: ابن أبى شيبة في "مصنفه" (7/ 121) (رقم: 34665)، وأبو خيثمة في "العلم" (رقم: 12) والدارمي في "مسنده" (1/ 461/ 574).

قال الشيخ الألباني في تحقيقه لكتاب "العلم": "إسناد هذا الأثر جيد".

 

جامع بيان العلم وفضله (1/ 492) (رقم: 780):

وَقَالَ عَلِيٌّ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_:

«لَمْ يُؤْخَذُ عَلَى الْجَاهِلِ عَهْدٌ بِطَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى أُخِذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ عَهْدٌ بِبَذْلِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ»

 

ترتيب الأمالي الخميسية للشجري (1/ 87) (رقم: 329):

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَيْزَارِ، قَالَ:

كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا رَأَى الشَّبَابَ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ، قَالَ:

«مَرْحَبًا بِكُمْ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، مَصَابِيحَ الظُّلْمَةِ، خُلْقَانَ الثِّيَابِ، جُدُدَ الْقُلُوبِ، جَرَسَ الْبُيُوتِ، رَيْحَانَ كُلِّ قَبِيلَةٍ»

 

ترتيب الأمالي الخميسية للشجري (1/ 87) (رقم: 330):

عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ فَضْلِ عِلْمِهِ، كَمَا يُسْأَلُ عَنْ فَضْلِ مَالِهِ» .

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1/ 213) (رقم: 689)، وزهير بن حرب في "العلم" (ص: 36) (رقم: 162)، وابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (4/ 15)، والخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 324) (رقم: 719)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 489) (رقم: 774 و 777).

 

والحديث حسن صحيح: صرح بذلك الألباني _رحمه الله_ في "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (7/ 1401) (رقم: 3479)، و"صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1015) (رقم: 5835)

 

من فوائد الحديث:

 

1/ فيه: حثٌّ على تبليغ العلم

 

وقال الدارمي _رحمه الله_ في "سننه" (1/ 455):

"بَابُ الْبَلَاغِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، وَتَعْلِيمِ السُّنَنِ." اهـ

 

2/ وفيه: كَرَاهِيةُ مَنْعِ الْعِلْمِ وكتمانِهِ

 

قال البيهقي _رحمه الله_ في "المدخل إلى السنن الكبرى" (ص: 346):

"بَابُ كَرَاهِيةِ مَنْعِ الْعِلْمِ وَهُوَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ." اهـ

 

3/ فيه: بيان أن كتم العلم من الكبائر

 

قال الهيتمي _رحمه الله_ في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (1/ 152_153):

"(الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: كَتْمُ الْعِلْمِ)

* قَالَ تَعَالَى:

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: (نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)،

وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ لِكَتْمِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ،

وَقِيلَ: إنَّهَا عَامَّةٌ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ،

وَكِتْمَانُ الدِّينِ يُنَاسِبُ اسْتِحْقَاقَ اللَّعْنِ؛ فَوَجَبَ عُمُومُ الْحُكْمِ عِنْدَ عُمُومِ الْوَصْفِ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْعُمُومِ،

كَعَائِشَةَ فَإِنَّهَا اسْتَدَلَّتْ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إلَيْهِ،

وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْوُهَا مَا كَثُرَ الْحَدِيثُ، وَالْكَتْمُ تَرْكُ إظْهَارِ الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إلَى إظْهَارِهِ،

* وَنَظِيرُهَا:

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 174 - 175]

* وَنَظِيرُهَا أَيْضًا:

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]___

فَهَاتَانِ، وَإِنْ كَانَتَا فِي الْيَهُودِ أَيْضًا لِكَتْمِهِمْ صِفَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرَهَا إلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَقَرَّرَ: وَالْبَيِّنَاتِ: مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْكُتُبِ وَالْوَحْيِ. وَالْهُدَى: الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وَمِنْ بَعْدِ: ظَرْفٌ لَيَكْتُمُونَ، لَا لَأَنْزَلْنَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى." اهـ

 

4/ وفيه: ردٌّ على الشيعة والصوفية

 

وقال الذهبي (المتوفى: 748 هـ) _رحمه الله_ في "المنتقى من منهاج الاعتدال (ص: 192):

"فَإِن زعم زاعم أَنه كَانَ عِنْدهم من الْعلم المخزون مَا لَيْسَ عِنْد أُولَئِكَ لَكِن كَانُوا يكتمونه، فَأَي فَائِدَة للنَّاس من علم مَكْتُوم؟!

فَعِلْمٌ لَا يُقَال بِهِ، ككنز لَا ينْفق مِنْهُ، فَكيف يأتم النَّاس بِمن لَا يبين لَهُم. وَالْعِلْمُ المكتومُ كَالْإِمَامِ الْمَعْدُوم! وَكِلَاهُمَا لَا ينْتَفع بِهِ، وَلَا يحصل بِهِ لُطْفٌ، وَلَا مصلحَةٌ." اهـ، انظر: "منهاج السنة النبوية" (4/ 126) لشيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_.

 

5/ فيه: إشارة إلى أن العلم من الرزق

 

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ _رحمه الله_ في "الإيمان والرد على أهل البدع" - مطبوعٌ ضِمْنَ "مجموعةِ الرسائل والمسائلِ النجدية لبعض علماء نجد الأعلام" (2/ 83):

أن الرزق في اللغة: الحظ والنصيب،

ومنه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]،

أي: تجعلون حظكم ونصيبكم من سماع القرآن تكذيبكم به وبمن أنزل عليه.

وأما في عرف الشرع: فهو أخص من ذلك؛ إذ هو ما تَخَصَّصَ بِهِ الْحَيَوَانُ، وتَمَكَّنَ مِنَ الْاِنْتِفَاعِ بِهِ.

وقد يطلق على ما يعم النعم الظاهرة والباطنة،

ومن ثم قال جماعة من المفسرين وغيرهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]: يحتمل أن المراد الإنفاق من جميع ما منحهم الله تعالى به من النعم الظاهرة؛ إذ الإنفاق كما يكون من هذه، كذلك يكون من النعم الباطنة كالعلم والجاه،

ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي شيبة: (إِنَّ عِلْمًا لَا يُقَالُ – أي: لا يُتَحَدَّثُ به - كَكَنْزٍ لا يُنْفَقُ منه)[1]." اهـ

 

وقال محمد بن أحمد عبد السلام خضر الشقيري الحوامدي (المتوفى: بعد 1352 هـ) _رحمه الله_ في "السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات" (ص: 399):

وَقَالَ الإِمَام الشَّوْكَانِيّ فِي تَفْسِيره:

"...كَانَ يُقَال: طُوبَى لعالم نَاطِق، وطوبى لمستمع واع، هَذَا رجل علم علما فَعلمه وبذله ودعا إِلَيْهِ، وَهَذَا رجل سمع خيرا فحفظه ووعاه وانتفع بِهِ. أهـ.

 

5/ فيه ذكر أحد مراتب العلم

 

وقال ابن القيم _رحمه الله_ في "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 71_72):

"إِن النَّبِي دَعَا لمن سمع كَلَامه، ووعاه، وَحفظه، وبلَّغه.

وَهَذِه هِيَ مَرَاتِب الْعلم:

* أوَّلُهَا، وَثَانِيْهَا: سَمَاعه، وعقله.

فَإِذا سَمعه، وعاه بِقَلْبِه، أَيْ: عقَله وَاسْتقر فِي قلبه كَمَا يسْتَقرّ الشَّيْء الَّذِي يوعى فِي وعائه وَلَا يخرج مِنْهُ___

وَكَذَلِكَ عقله هُوَ بِمَنْزِلَة عقل الْبَعِير وَالدَّابَّة وَنَحْوهَا حَتَّى لَا تَشْرُدَ وَتذْهَبَ. وَلِهَذَا كَانَ الوعي وَالْعقل قدرا زَائِدا على مُجَرّد إِدْرَاك الْمَعْلُوم.

* الْمرتبَة الثَّالِثَة: تعامده وَحفظه حَتَّى لاينساه، فَيذْهبَ.

* الْمرتبَة الرَّابِعَة: تبليغه وبثه فِي الامة ليحصل بِهِ ثَمَرَتُه، ومقصودُه، وَهُوَ: بثه فِي الامة.

فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْكَنْز المدفون فِي الأرض الَّذِي لَا يُنْفَقُ مِنْهُ، وَهُوَ مُعَرَّضٌ لذهابه، فَإِن الْعلم مَا لم ينْفق مِنْهُ وَيُعَلَّمْ، فَإِنَّهُ يُوشك أنْ يذهب. فَإِذا أنفق مِنْهُ، نما، وزكا على الإنفاق.

فَمن قَامَ بِهَذِهِ الْمَرَاتِب الأربع، دخل تَحت هَذِه الدعْوَة النَّبَوِيَّة المتضمنة لجمال الظَّاهِر وَالْبَاطِن، فَإِن النضرة هِيَ الْبَهْجَة وَالْحسن الَّذِي يكساه." اهـ

 

[تعليق]:

أشار ابن القيم _رحمه الله_ إلى ما ورد في "سنن الترمذي" – ت. شاكر (5/ 34) (رقم: 2657_2658)، واللفظ له، و"سنن ابن ماجه" (1/ 85) (رقم: 232): عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ _رضي الله عنه_:

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا، وَحَفِظَهَا، وَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»

 

6/ فيه بيان أن كتمان العلم هَلَكَةٌ

 

تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (7/ 461) (رقم: 8324):

عن قتادة: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]، الآيةَ،

هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فليعلِّمه، وإياكم وكتمانَ العلم، فإن كتمان العلم هَلَكة، ولا يتكلَّفن رجلٌ ما لا علم له به، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلِّفين

 

تنبيه: أَوْرَدَ الحديْثَ أبو محمد حسنُ بْنُ عَلِّيٍّ الفَيُّوْمِيُّ (المتوفى: 870 هـ) _رحمه الله_ في "فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب" (2/ 68) (رقم: 203).



[1]  والصحيح من قول سلمان _رضي الله عنه_ فيما ورد في "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 121) (رقم: 34665)

Komentar

Postingan populer dari blog ini

الحديث 12 من رياض الصالحين