خلق أفعال العباد - من عقيدة السلف أصحاب الحديث
قال أبو عثمان الصابوني _رحمه الله_ في "عقيدة
السلف أصحاب الحديث" (ص: 28): [خلق أفعال العباد] ومن
قول أهل السنة والجماعة في أكساب العباد أنها مخلوقة لله تعالى، لا يمترون فيه،
ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه، ويشهدون أن الله
تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله عليه، ولا عذر له لديه، قال
الله _عز وجل_ {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. وقال:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف:
179] الآية. فسبحانه وتعالى خلق الخلق بلا حاجة إليهم، فجعلهم فرقتين، فريقا للنعيم فضلا، وفريقا للجحيم عدلا، وجعل منهم غويا ورشيدا، وشقيا وسعيدا، وقريبا من رحمته، وبعيدا، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54] قال الله _عز وجل_: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) } [الأعراف: 29، 30] قال ابن عباس: "هو ما سبق لهم من السعادة والشقاوة." [الطبري في "تفسيره" (8/ 115)، والآجري في الشريعة (297)] أخبرنا
أبو محمد الْمَخْلَدِي أخبرنا أبو محمد العباس السراج حدثنا يوسف عن موسى أخبرنا جرير
عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن
خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون
مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، رزقه وعمله وأجله وشقي أو
سعيد، فوَالذي
نفسي بيده، إن أحدكم لَيَعْمَلُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا
ذراعٌ، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ". [خ
م] أخبرنا أبو محمد المخلدي قال: أنبأنا أبو العباس السرَّاج، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - وهو ابن راهويه -، قال: أنبأنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ، تَحَوَّلَ، فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَمَاتَ ، فَدَخَلَ النَّارَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ، تَحَوَّلَ ، فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَمَاتَ فَدَخَلَهَا." [صحيح: "تخريج مسند أحمد" - ط. الرسالة (41/ 279) (رقم: 24762 )] |
المبحث الأول: معنى القدَر وحدُّه:
قال
ابن الأثير _رحمه الله_ في "النهاية في غريب الأثر" (ج 4 / ص 41): "وقد
تكرر ذكر القَدَر في الحديث، وهو عبارة عما قضاه
اللّه وحَكَم به من الأمور . وهو مصدر: قَدَرَ يَقْدُرُ قَدَراً.
وقد تُسَكَّن دالُه." اهـ
قال
ابن فارس _رحمه الله_ في "معجم مقاييس اللغة" (ص 846):
"(القدْر):
قضاء الله _تعالى_ الأشياءَ على مبالِغِها ونهاياتِهَا التي أرادها لها، وهو (القَدَرُ)
أيضاً." اهـ
وَقَالَ
الْكَرْمَانِيُّ _رحمه الله_:
"الْمُرَاد
بِـ(الْقَدَرِ): حُكْم اللَّه. وَقَالُوا - أَيْ الْعُلَمَاء -:
(الْقَضَاء):
هُوَ الْحُكْم الْكُلِّيُّ الْإِجْمَالِيُّ فِي الْأَزَل، وَ(الْقَدَر):
جُزْئِيَّاتُ ذَلِكَ الْحُكْم وَتَفَاصِيلُهُ." اهـ من "فتح الباري"
لابن حجر (ج 18 / ص 436)
المبحث الثاني: منزلة الإيمان بالقدر:
الإيمان
بالقدر: أحد أصول الإيمان الستة عند أهل السنة والأثر، بل هو من أركانها،
فمن
لم يؤمن به، فهو كافر بريء من الإسلام كما في حديث ابن
عمر _رضي الله عنه_، حيث قال عن معبد الجهني القدري:
(فَإِذَا
لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ
مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ
لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ
حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ) م
المبحث الثالث: مراتب الإيمان بالقدر ودرجاته:
* المرتبة الأولى:
الإيمان بعلم الله _تعالى_ أزلاً بكل ما هو كاهن
قال
الله _تعالى_: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
[الحج: 70]
وقال
ابن كثير _رحمه الله_ في "تفسيره" – ت. سلامة (5/ 452):
"يُخْبِرُ
_تَعَالَى_ عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ بِخَلْقِهِ، وَأَنَّهُ محيط بما في السموات
وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ، وَأَنَّهُ _تَعَالَى_
عَلِمَ الْكَائِنَاتِ كُلَّهَا قَبْلَ وُجُودِهَا." اهـ
* المرتبة الثانية: الإيمان بكتابة الله المقادير
قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ
قال
_صلى الله عليه وسلم_:
(كَتَبَ
اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) م
وفي
"سنن أبي داود" (4/ 225) (رقم: 4700)، و"سنن الترمذي" – ت.
شاكر (4/ 457 و 5/ 424) (رقم: 2155 و 3319):
قَالَ
عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ:
"يَا
بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ
مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ
لِيُصِيبَكَ،
سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، يَقُولُ:
(إِنَّ
أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ
لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: "رَبِّ وَمَاذَا
أَكْتُبُ؟"
قَالَ:
"اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ."
يَا
بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_
يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا، فَلَيْسَ مِنِّي» [صححه الألباني في
"الصحيحة" (1/ 257) (رقم: 133)]
* المرتبة الثالثة: الإيمان بمشئة الله كل مقدرٍ
قال الله _تعالى_:
{وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]،
قال _تعالى_: {وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]
قال _تعالى_: {
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]
فجميع الحوادث
والأفعال والكائنات، لا تقع إلا بمشيئة الله _تعالى_، فما شاء الله كان، وما لم
يشأ لم يكن.
وقال
العثيمين في " تفسير جزء عم" (ص: 82):
"فإذا
شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه. كما قال تعالى:
{ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا
فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253]." اهـ
الفرق بين المشيئة والإرادة:
وقال
الشيخ العباد _حفظه الله_ في "قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد
القيرواني" (ص: 101):
"وأمَّا
الإرادة فإنَّها تأتي لمعنى كونِيٍّ ومعنى دينِيٍّ شرعيٍّ:
* ومن
مجيئها لمعنى كونيٍّ قدَري:
قوله
تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ
كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
[هود: 34]،
وقوله:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } [الأنعام: 125]
* ومن
مجيء الإرادة لمعنى شرعيٍّ:
قول
الله عزَّ وجلَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} [البقرة: 185]
وقوله:
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
[المائدة: 6]." اهـ
وقال
الشيخ العباد _حفظه الله_ في "قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد
القيرواني" (ص: 101):
والفرقُ
بين الإرادَتَين:
*
أنَّ الإرادةَ الكونيَّة: تكون عامَّةً فيما
يُحبُّه الله ويَسخطُه، وأمَّا الإرادةَ الشرعيَّة:
فلا تكون إلاَّ فيما يُحبُّه الله ويرضاه،
* والكونيَّة لا بدَّ من وقوعها، والدينيَّة
تقع في حقِّ مَن وفَّقه الله، وتتخلَّف في حقِّ مَن لم يحصل له التوفيقُ من
الله
* المرتبة الرابعة: الإيمان بخلق الله كل مقدر طِبْقًا لما علمه
وكتبه وشاءه
قال تعالى:
{وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]
قال تعالى_:
{وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 96] [1]
قال القرطبي
_رحمه الله_ في "تفسيره" (15/ 96):
"وَالتَّقْدِيرُ
وَاللَّهَ خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ
الْأَفْعَالَ خَلْقُ لِلَّهِ _عَزَّ وَجَلَّ_ وَاكْتِسَابٌ لِلْعِبَادِ.
وَفِي
هَذَا: إِبْطَالُ
مَذَاهِبِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ.
وَرَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ
اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ." ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ.
وَخَرَّجَهُ
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ:
رَسُولُ
اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_:
"إِنَّ
اللَّهَ _عَزَّ وَجَلَّ_ صَنَعَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهَ، فَهُوَ الْخَالِقُ،
وَهُوَ الصَّانِعُ _سُبْحَانَهُ_."[2]
وَقَدْ
بَيَّنَّاهُمَا فِي (الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحسنى)."
اهـ
المبحث الرابع: طريقةُ معرفةِ كونِ الأشياءِ مقدرةً:
القدر
من الأمور الغيبية الذي لا يعلمه إلا الله، ويمكن أن يعلم بأحد أمرين:
1/
وقوع شيء
2/
حصول الإخبار من الله ورسوله عن أمور تقع في المستقبل.
[انظر: "قطف الجنى الداني"
(99-100) لشيخنا العَبَّادِ _حفظه الله_]
المبحث الخامس: إثبات مشيئة العبد وقدرته، والرد على الطائفتين
الضالَّتين فيه:
قال
العثيمين في "مجموع فتاوى ورسائله" (4/ 301):
"للعبد
مشيئة وقدرة، لقوله _تعالى_: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، وقوله:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
فأثبت
الله للعبد مشيئة واستطاعة، وهي القدرة، إلا أنهما تابعتان لمشيئة الله _تعالى
لقوله تعالى_: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ} .
من ضل في هذه الدرجة وهي المشيئة والخلق:
ضل
فيها طائفتان:
الأولى:
القدرية حيث زعموا أن العبد مستقل بإرادته وقدرته
ليس لله في فعله مشيئة ولا خلق.
الثانية:
الجبرية حيث زعموا أن العبد مجبور على فعله ليس له
فيه إرادة ولا قدرة.
والرد على الطائفة الأولى القدرية بقوله تعالى:
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
مَا فَعَلُوهُ} .
والرد على الطائفة الثانية الجبرية بقوله تعالى:
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} . {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ}. فأثبت للإنسان مشيئة وقدرة." اهـ
المبحث السادس: تحريم الاحتجاج بالقدر على ترك الواجبات أو فعل
المحظورات:
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (4/ 301_302):
"لا يجوز الاعتماد على القضاء
السابق وترك العمل لأن «الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على
الكتاب الأول وندع___العمل؟، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما
أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة» وتلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ
بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ."
اهـ
بعض الجهال قد يحتَجُّ بالقدر على
فعلهم القبيح كما فعل المشركون حيث قالوا على ما جاء في قول الله _تعالى_:
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا
حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى
ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } [الأنعام:
148]
قال ابن كثير - (ج 3 / ص 358) :
(وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت
صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين
من أليم الانتقام) اهـ
قال ابن القيم _رحمه الله_ موجِّهاً
حديث احتجاج آدم موسى:
(نكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح
الاحتجاج بالقدر, وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل) [انظر: "شفاء
العليل" (1/57)]
وقال العثيمين في "تفسير جزء عم"
(ص: 82):
فإن قال قائل:
إذن لنا حجة في المعصية لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله.
فالجواب: أنه
لا حجة لنا لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها، وفعلنا إياها
باختيارنا،
ولهذا لا يمكن أن نقول إن الله شاء كذا
إلا بعد أن يقع، فإذا وقع فبأي شيء وقع؟ وقع بإرادتنا ومشيئتنا،
لهذا لا يتجه أن يكون للعاصي حجة على
الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما
أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا___بأسنا}.
[الأنعام: 148] ." اهـ
المبحث السابع: مجوس هذه الأمة:
وقال
العثيمين في "مجموع فتاوى ورسائله" (4/ 302)
"مجوس
هذه الأمة القدرية الذين يقولون: إن العبد مستقل بفعله.
سموا
بذلك لأنهم يشبهون المجوس القائلين بأن للعالم خالقين النور يخلق الخير والظلمة
تخلق الشر وكذلك القدرية قالوا: إن للحوداث خالقين فالحوادث التي من فعل العبد
يخلقها العبد والتي من فعل الله يخلقها الله.
المبحث الثامن: الجبرية يخرجون عن أحكام الله حِكَمَها ومصالحها،
فما وجه ذلك؟
وقال
العثيمين في "مجموع فتاوى ورسائله" (4/ 302):
"وجه
ذلك: أن الجبرية لا يفرقون بين فعل العبد اختيارًا وفعله بدون اختيار كلاهما عندهم
مجبر عليه كما سبق،
وإذا
كان كذلك صار ثوابه على الطاعة وعقابه على المعصية، لا حكمة له، إذ الفعل جاء بدون
اختياره. وما كان كذلك، فإن صاحبه لا يمدح عليه فيستحق الثواب ولا يذم عليه فيستحق
العقاب.
والإيمان
بالقدر على ما وصفنا، لا ينافي أن يكون للعبد مشيئةٌ في
أفعاله الاختيارية وقدرةٌ عليها، بحيث يستطيع الاختيار هل يفعل أو يترك ما
يكون ممكناً له من فعل الطاعات أو تركها ، وفعل المعاصي أو تركها والشرع والواقع
دالان على إثبات هذه المشيئة للعبد .
أمـا الشرع: فقد قـال الله _تعالى_ في المشيئة:
(ذَلِكَ
الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً ) النبأ /39 .
وقال:
( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) البقرة /223 .
وقال
في القدرة: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
) التغابن /16 . وقال : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة /286 .
فهذه
الآيات تثبت للإنسان مشيئةً وقدرةً بهما يفعل ما يشاء أو يتركه .
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة
بهما يفعل وبهما يترك ، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي ، وما يقع بغير إرادته
كالارتعاش ، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى وقدرته ، لقول الله
تعالى:
(لِمَنْ
شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ ) التكوير /28-29.
ولأن
الكون كله ملك لله _تعالى_، فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته، والله تعالى
أعلم . انظر: "رسالة شرح أصول الإيمان" للشيخ العثيمين.
[1] انظر: "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر"
(ص 90-91) لصديق حسن خان _رحمه الله_، و"قطْف الجنى الداني" (98-99)
لشيخنا عبد المحسن العباد _حفظه الله_، و"فتح القوي المتين" (ص 25) له
أيضاً
[2] أخرجه والبخاري في "خلق أفعال العباد"
(ص: 46)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 158) (رقم: 357)، والبزار في "مسنده"
= البحر الزخار (7/ 258) (رقم: 2837)، و والحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/ 85)
(رقم: 85 و 86). صححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (4/ 181)
(رقم: 1637)
Komentar
Posting Komentar