شرح الحديث 23 من بلوغ المرام لأبي فائزة البوجيسي
23 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _رضي الله
عنه_ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: (إِنَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا
رِجْسٌ)." مُتَّفَقٌ عَلَيْه |
تخريج الحديث:
أخرجه البخاري في "صحيحه"
(5/ 131 و 7/ 95) (رقم: 4199 و 5528)، ومسلم في "صحيحه" (3/ 1540/ 34_35)
(رقم: 1940)، والنسائي في "سننه" (1/ 56 و 7/ 203) (رقم: 69 و 4340)، وفي
"السنن الكبرى" (1/ 96) (رقم: 64)، وابن ماجه في "سننه" (2/
1066) (رقم: 3196)، وعبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" (4/ 523) (رقم: 8719)،
والحميدي في "مسنده" (2/ 309) (رقم: 1234)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"
(5/ 122 و 7/ 395) (رقم: 24331 و 36889)، وأحمد في "مسنده" - عالم الكتب
(3/ 115 و 3/ 164) (رقم: 12140 و 12679)، والدارمي في "سننه" (2/ 1266)
(رقم: 2034)، السنن المأثورة للشافعي (ص: 412) (رقم: 602)، وابن حبان في "صحيحه"
(12/ 79) (رقم: 5274)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1/ 43 و 6/ 296)
(رقم: 117 و 6457)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (5/ 212) (رقم: 2828)،
وأبو عوانة في "المسند المستخرج" (5/ 34_35) (رقم: 7683_7687)، والطحاوي
في "شرح معاني الآثار" (4/ 205) (رقم: 6395)، وأبو نعيم في "حلية
الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 328)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/
555) (رقم: 19465)، وفي "معرفة السنن والآثار" (14/ 103) (رقم: 19292)، والشجري
كما في "ترتيب الأمالي الخميسية" (1/ 43) (رقم: 141).
والحديث صحيح: صححه الألباني
في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (8/ 137) (رقم: 2483)، و"التعليقات
الحسان على صحيح ابن حبان" (7/ 471) (رقم: 5250)، و"صحيح الجامع الصغير
وزيادته" (1/ 375) (رقم: 1833)
نص
الحديث وشرحه:
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _رضي
الله عنه_ قَالَ:
"لَمَّا كَانَ يَوْمُ
خَيْبَرَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: (إِنَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ؛
فَإِنَّهَا رِجْسٌ)." مُتَّفَقٌ عَلَيْه
صحيح البخاري (5/ 131)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُكِلَتِ الحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ
أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: أُكِلَتِ الحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: أُفْنِيَتِ
الحُمُرُ،
فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى
فِي النَّاسِ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ
الأَهْلِيَّةِ». فَأُكْفِئَتِ القُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ
صحيح مسلم (3/ 1540)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ جَاءَ جَاءٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُفْنِيَتِ
الْحُمُرُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا
طَلْحَةَ، فَنَادَى: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ
الْحُمُرِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» أَوْ «نَجِسٌ»، قَالَ: فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ
بِمَا فِيهَا
صحيح مسلم (3/ 1540)
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا
فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، أَصَبْنَا حُمُرًا خَارِجًا مِنَ الْقَرْيَةِ،
فَطَبَخْنَا مِنْهَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْهَا، فَإِنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»،
فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِمَا فِيهَا
أعلام الحديث (شرح صحيح
البخاري) (2/ 1409)
واختلف في سبب تحريم الحمر:
* فروي عن ابن أبي أوفى أنه
قال: (لما حرمت، تحدثنا أنه إنما نهى عنها، لأنها لم تخمس).___
* وقال بعضهم: (إنما نهي عنها،
لأنها كانت تأكل العذرة)،
* وروى عن ابن عباس أنه قال: (لا
أدري، أَنُهِيَ عنها، من أجل أنها كانت حمولتَهُمْ، فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ، أو
حرمة، بمعنى البتة).
قلت: أولى الأقاويل ما اجتمع عليه أكثر الأمة، وهو تحريم أعيانها،
ويؤكد ذلك: قوله حين أمر
المنادي أن ينادي: (أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر)،
وهذا غاية في مبالغة التحريم
على وجه التأبيد، والله أعلم." اهـ
من
فوائد الحديث:
توضيح الأحكام من بلوغ المرام
(1/ 174_175):
" * ما
يؤخذ من الحديث:
1 - نجاسة الحمر
الأهلية في لحمها ودمها، وبولها وروثها.
2 - أمَّا عرقها
ولعابها وبدنها، ففيه خلاف سيأتي إنْ شاء الله.___
3 - تحريم أكل لحومها وشرب
لبنها؛ فإنَّها رجسٌ، والرِّجس هو القذر النَّجس.
4 - تقييده
بالحمر الأهلية، دليلٌ على طهارة وإباحة الحمر الوحشية؛ ذلك أنَّها صيدٌ طاهرٌ
حلال.
5 - التعليل
بأنَّها رجس، دليل على أنَّ كلَّ عين نجسة، فهي محرَّمة؛ لما فيها من المضارِّ
الصحية، ولأنَّه خبيثٌ مستقذر.
6 - قوله
"ينهيانك" تثنية الضمير أحدهما يعود إلى الله تعالى، والآخر يعود إلى
رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد جاء مثل هذا في عدَّه نصوص، منها: "أنْ يكون
الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما" رواه البخاري (16) ومسلم (43).
أمَّا قوله -صلى الله عليه
وسلم- للخطيب الذي قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى،
فقال: بئس الخطيب أنت" رواه مسلم (870)؛ فقد حملوا هذا على أنَّ الخُطَبَ
ينبغي فيها البسط والإطناب؛ ليحصل التبليغ الكامل." اهـ
توضيح الأحكام من بلوغ المرام
(1/ 175_176):
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على أنَّ روث الحمار الأهلي والبغل، وبوله ودمه ولحمه: نجسة؛
لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحمار: "إنَّه رجس" وقال عن روثه:
"إنَّه رجس".
واختلفوا في بدنه وما يفرزه
من عرق، وفي فمه وما يخرج منه من ريقٍ وسؤره، وأنفه وما يخرج منه من مخاط، هل هي
نجسة أو طاهرة؟:
فذهب الإمام أحمد في المشهور
عنه: إلى نجاستها، وتبعه على ذلك أصحابه؛ قال في المقنع والإنصاف: والبغل والحمار
الأهلي نجسة، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قال ابن الجوزي: هذا هو الصحيح من
المذهب.
وذهب الإمامان مالك
والشَّافعي إلى أنَّهما طاهران؛ وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه
ومنهم الموفَّق؛ قال في المغني: والصحيح طهارة البغل والحمار، قال في الإنصاف:
قلت: وهو الصحيح والأقوى دليلاً.
واختارها بعض مشايخنا
المعاصرين:___
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل
الشيخ:" إنَّها طاهرة في الحياة، ولا ينجس منها إلاَّ البول والروث والدم.
وقال الشيخ عبد الرحمن
السعدي: الصحيح الذي لا ريب فيه أنَّ البغل والحمار طاهران في الحياة كالهِرِّ،
فيكون ريقهما وعرقهما وشعرهما طاهرًا.
واستدل الأولون على نجاستهما
بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّها رجس"، والرجس هو النجس؛ فعموم
الحديث يقتضي نجاسة كل شيءٍ منه، والأصل أنَّ كلَّ حيوان محرَّم فهو نجس خبيث، هو
وجميع أجزائه.
أمَّا الذين يرون طهارة
بدنهما وريقهما ومخاطهما وعرقهما وشعورهما: فلهم على ذلك أدلةٌ، منها:
أوَّلاً: أنَّ النَّبي -صلى
الله عليه وسلم- هو وأصحابه كانوا يركبونهما، ومع هذا لم يأمر بالتوقِّي من هذه
الفضلات منهما، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ثانيًا: أنَّه -صلى الله عليه
وسلم- قال عن الهرَّة: "إنَّها ليست بنجس؛ إنَّها من الطوافين عليكم"،
وهذه العلَّة موجودة في الحمار والبغل وأكثر؛ فإنَّ ركوبهما واستعمالهما أكثر
لصوقًا وأمس حاجةً من الهِرَّة، فإذا عفي عن الهرَّة لتطوفها، فهو في الحمار
والبغل أولى.
ثالثًا: القاعدة الشرعية
الكليَّة الكبرى، وهي "المشقَّة تجلب التيسير"؛ فمشقَّة ركوب الحمار والبغل
والحمل عليهما مسألةٌ جزئية من هذه القاعدة العظيمة.
ولذا قال الإمام أحمد: البغل
والحمار طاهران ريقهما وعرقهما وشعورهما.
وقال في المغني: الصحيح عندي
طهارة البغل والحمارة لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يركبهما
ويُرْكَبَانِ في زمنه، فلو كانا نجسين، لبيَّن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-
ذلك.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم
آل الشيخ: هذا القول هو الأليق بالشريعة المحمدية شريعة اليسر، والبعد عن الحرج
والمشقَّة.
وقال ابن القيم: دليل النجاسة
لا يقاوم دليل الطهارة." اهـ
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
(2/ 172_173):
"قال
الجامع: عندي أن الذي صححه العلامتان ابن قدامة والنووي من طهارة البغل والحمار هو
الصحيح؛ لأنهما كانا يركبان في عهده _صلى الله عليه وسلم_، وبعده، فلو كانا نجسين
لبين ذلك، لشدة الحاجة إليه، وكذلك سائر____سباع البهائم للحجج التي ذكرها النووي
رحمه الله، والله أعلم." اهـ
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
(2/ 173)
دل الحديث على تحريم الحمر
الأهلية، قال الحافظ رحمه الله: قال النووي رحمه الله: قال بتحريم الحمر الأهلية
أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا لهم
إلا عن ابن عباس، وعند المالكية ثلاث روايات، ثالثها الكراهة.
فتح ذي الجلال والإكرام بشرح
بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 144)
ففي هذا الحديث فوائد منها:
أنه ينبغي إعلام الأحكام الشرعية بأقوى ما يحصل به الإعلام، وجهه: أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر أبا طلحة لارتفاع صوته بإعلان هذا الحكم الشرعي.
ومنها: أن استعمال مكبر الصوت
في إبلاغ الخطبة للمصلين واستعمال الإذاعة وهي أوسع انتشارا من الأمور التي جاءت
بمثل السنة، فيكون في ذلك رد على من أنكر هذا وقال: هذه بدعة؛ لأنه لم يكن معروفا
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: جواز الجمع بين اسم
الله واسم الرسول بالواو في الأحكام الشرعية لقوله: "إن الله ورسوله
ينهيانكم"، ولم يقل: ثم رسوله، ووجه ذلك: أن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم
من نهي الله كما قال الله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضللا مبينا}
[الأحزاب: 36].
وقال الله تعالى: {ومن يطع
الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80]. ولما كان الحكم الصادر من النبي صلى الله
عليه وسلم كالحكم الصادر من الله صح أن يجمع اسم الله واسم الرسول صلى الله عليه
وسلم بالواو.
فإن قال قائل: أين نهانا الله
عن ذلك وقد قال الله لنبيه: {قل لا أجد في ما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا
أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} [الأنعام: 145]. المحرمات ثلاثة، والحمر
ليست منها فأين نهي الله؟ !
فالجواب أن نقول: إن الآية في
سورة الأنعام وسورة الأنعام مكية والحديث في خيبر بعد الهجرة والآية ليس فيها
"لن أجد فيما أوحي إلى محرما" لو كان لفظ الآية: "لن أجد"
لكان هذا الحديث معارضا، لكن الآية {لا أجد في ما أوحى إلي} ولم يقل: فيما يوحى
إلي، فالآية نزلت وفي أيام نزولها لم يكن محرما إلا هذه الأنواع الثلاثة، ولا معارضة
بينها وبين الحديث إطلاقا، ولا بينها وبين نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي
ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير؛ فالآية واضحة، وفي أدنى تأمل يتبين لك أنه لا
حاجة إلى الإتيان بها في معارضة هذا الحديث وأمثاله.___
فتح ذي الجلال والإكرام بشرح
بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 145)
فإذا قال قائل: سلمنا بهذا
وأنه لا معارضة بينها وبين الحديث، لكن أين نهي الله للرسول؟
نقول: من الذي أخبرنا بأن
الله نهى؟ الرسول - عليه الصلاة والسلام- فيجيب علينا أن نؤمن بذلك، وأن نقول: إن
الله نهي عن لحوم الحمر الأهلية، أما في أي نص كان ذلك؟ فإنه يكفي أن يكون الراوي
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حاجة أن نتنطع ونقول: أين وأين الوحي وما
أشبه ذلك.
فإن قال قائل: ما الجمع بين
هذا الحديث: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية"، وبين ذم
النبي صلى الله عليه وسلم للخطيب الذي قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن
يعصهما فقد غوى". وهنا قال: "ينهيانكم" فجمعها في ضمير واحد، وهنا
قال النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أبا طلحة: "ينهيانكم"، والخطيب قال
له: "بئس خطيب القوم أنت" فما الجواب؟
نقول: الجواب من وجوه.
الوجه الأول: أن هناك فرقا
بين الصيغتين: صيغة الحديث، وصيغة الخطيب. صيغة الحديث "ينهيانكم" خبر
لمبتدأ من اثنين: معطوف ومعطوف عليه، وإذا كان خبرا عن اثنين أحدهما معطوف والثاني
معطوف عليه، صار كأنه مركب من اثنين هذا واحد.
أما الخطيب فقد قال: "من
يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما" هذه جملة مستقلة ليست خبرا عن الجملة
الأولى، ولا جوابا لشرط فهي مستقلة، وإذا كانت مستقلة فيجب أن يستقل لفظ الاثنين
كل واحد على انفراد، فيقول: "ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"، الفرق واضح
أم لا؟ "إن الله ورسوله ينهيانكم" الجملة واحدة أو اثنتان؟ واحدة،
"وينهيانكم" والتي جمع فيها الضمير خبر ل (إن)، والجملة واحدة وهي خبر
لاثنين، كل واحد منهما ذكر على انفراد، فهي جملة واحدة. في عبارة الخطيب "من
يطع الله ورسوله فقد رشد" انتهت الجملة، "ومن يعصهما فقد غوى" جاءت
جملة جديدة فصارت كأنها منفصلة عن الأولى، فإتيانه بالضمير مجموعا باثنين يعتبر خطأ،
وأن الفصاحة أن يقول: "ومن يعص الله ورسوله" فالفرق ظاهر بين الصيغتين.
ثانيا: أن مقام الخطبة ينبغي
أن يكون بالتفصيل والبسط، والاختصار الشديد ينافي البيان في الخطبة، وأما هذا فهو
بيان حكم، وبيان الحكم قد يكون من الفصاحة أن يختصره.
الجواب الثالث: أن النبي صلى
الله عليه وسلم يبعد في حقه وفي نطقه أن يجعل الله شريكا، وأما المخلوق فإذا جمع
اسم الله واسم غيره في الواو فقد يعتقد أنهما سواء، ولكن هذا الجواب ضعيف؛ لأن
الخطيب جمع بينهما بالواو، فهذا لا يعول عليه.
والرابع: أنه قيل: إن الخطيب
ينبغي أن تكون خطبته واحدة، فإذا قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن
يعصهما فقد غوى" قد يتوهم السامع أن الغي لا يكون بمعصية الله___
فتح ذي الجلال والإكرام بشرح
بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 146)
ورسوله؛ أي: إلا فيما ورد فيه
نهي في الكتاب والسنة وهذا غلط، لكن عندي أن أقرب الأجولة الأول، وهو اختلاف
الصيغتين، ويليه الثاني أن مقام الخطبة ينبغي فيه البسط.
ومن فوائد هذا
الحديث: أن الأصل في
النهي التحريم لقوله: "ينهيانكم"، ثم علل ذلك بأنها رجس، والرجس محرم.
ومن فوائد هذا
الحديث: أن اللحم
إذا أطلق يشمل جميع أجزاء البدن؛ لأنه بالاتفاق والإجماع أن الحمير حرام، سواء
كانت لحما أي: هبرا كما يعرف، أو كبدا أو كرشا أو أمعاء كلها تسمى لحما في الشرع.
ومن فوائد هذا
الحديث: جواز لُحُوْمِ
الحمر الوحشية.
من أين تؤخذ؟ تؤخذ من القيد،
وهل التحريم من أجل
أن الناس محتاجون لظهورها يركبونها ويحملون عليها، فإذا أبيحت ضاقت على الناس، أو
أن التحريم من أجل أنها خبيثة؟
الثاني؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم نص عليه؛ ولأن العلة الأولى منتقصة.
الناس إلى ظهور الإبل أحوج،
ومع ذلك فالإبل مباحة، الناس إلى البقر في الحرث أشد حاجة من الحمر ومع ذلك فهي
مباحة، فالصواب ما علل به الرسول - عليه الصلاة والسلام-، وأما الخوف أن يضيق على
الناس ظهورهم فهذا غير صحيح.
ومن فوائد هذا
الحديث: أن كل رجس
حرام؛ لأنها رجس وهذا كالآية الكريمة: {قل لا أجد في ما أوحى على طاعم يطعمه إلا
أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145].
إذن نأخذ - يا إخواني- من هذا
أن كل نجس حرام.
ومن
فوائد هذا الحديث: أن جميع أجزاء
الحمر نجسة: بولها، ورثها، ريقها، عرقا ما يخرج من جسدها من صديد أو غيرها لعموم
قوله: "فإنها رجس"،
وهذا هو المشهور من المذهب -
مذهب الحنابلة- حتى لو شرب الحمار من ماء وهو قليل الماء نجسا، وإن لم يتغير، ولكن
يعارض هذا - أي: القول بأن كل ما يتصل بالحمير،
فإنه نجس- أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال في الهرة: "إنها ليست بنجس"، وعلل بأنها من الطوافين،
ومعلوم أن تطواف
الحمير على الناس أكثر من تطواف الهرة، والعلة ثابتة في الهرة وموجبة للتطهير،
كذلك العلة في الحمر، وهذا القول هو الصحيح،
ويدل لهذا أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه كانوا يركبون الحمير وراكب الحمار لا يخلو من بلل إما من عرق
منه، أو من الحمار، أو إصابة ماء السماء، ثم إن الحمر تشرب وتنفض رأسها بعد الشرب
ويتطاير الماء على من حولها،
وهذا لا شك أن فيه مشقة
لاسيما على من يمارسه كثيرا والدين لا يأتي بمشقة، وهذا
القول هو القول الراجح يعني: أن ريقها وما يخرج من أنفها وما يخرج من عينها
من دمع وعرقها كله طاهر؛ لأن هذه الحمر من الطوافين علينا، وقد قال النبي - عليه
الصلاة والسلام- في الهرة: إنها من الطوافين علينا.___
المؤلف اختصر على هذا القدر
من الحديث ولم يذكر أنهم صاروا يطبخونها، وأن القدور تغلي فيها وأن الرسول أمر أن
تكفا القدور وأمر أن تكسر، ولكنهم طلبوا منه أن تغسل فقال: "أو
اغسلوها".
هذا الحديث بقيته
يدل على أن الاستمرار فيما ثبت تحريمه محرم، وإن كان مباحا في أول الأمر، إذا ثبت التحريم حرم الاستمرار، ومعلوم الآن أنه ليس هناك
شيء يكون أوله حلالا ثم يكون حراما.
لكن ينبني على هذا فيما لو
علم الإنسان بتحريم شيء في أثناء ملابسته له فهل يجب عليه التخلي فورا؟
الجواب: نعم، يعني: لو أن
إنسانا لبس حريرا يظن أن لبس الحرير حلال، ثم قيل له: إن لبس الحرير حرام، يجب
عليه في الحال أن يخلعه لكن طبعا يخلعه إذا كان لديه ثوب يستر به عورته وإلا انتظر
حتى يجد ثوبا، وكذلك لو قيل له: إن هذا الشراب الذي تشربه الآن حرام مثل ما يوجد
في بعض المشروبات يظن أنها حلال وهي حرام في غير بلادنا؛ بلادنا - والحمد لله- لا
يرد عليها إلا شيء مختبر.
Komentar
Posting Komentar