شرح الحديث 128-129 من الأدب المفرد لأبي فائزة البوجيسي

 

70- باب جار اليهودي

 

128 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:

"كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - وَغُلَامُهُ يَسْلُخُ شَاةً - فَقَالَ:

"يَا غُلَامُ، إِذَا فَرَغْتَ، فَابْدَأْ بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ،

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: "الْيَهُودِيُّ أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟"

قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِي بِالْجَارِ، حَتَّى خَشِينَا أَوْ رُئِينَا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ."

[قال الشيخ الألباني: صحيح]

 

رواة الحديث:

 

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ (ثقة ثبت: ت. 218 هـ بـ الكوفة):

الفضل بن دكين (عمرو) بن حماد بن زهير القرشي التيمي الطلحي مولاهم ، الأحول أبو نعيم الملائى الكوفى ( مشهور بكنيته )، من صغار أتباع التابعين، روى له:  خ م د ت س ق  رتبته عند ابن حجر : 

 

قَالَ: حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ سُلَيْمَانَ (ثقة يغرب):

بشير بن سلمان الكندي، أبو إسماعيل الكوفي (والد الحكم بن بشر)، من الذين عاصروا صغار التابعين، روى له:  بخ م د ت س ق 

 

عَنْ مُجَاهِدٍ (ثقة إمام فى التفسير و فى العلم: ت. 101 أو 102 أو 103 أو 104 هـ):

مجاهد بن جبر المكي، أبو الحجاج القرشي المخزومي مولاهم، من الوسطى من التابعين، روى له:  خ م د ت س

 

نص الحديث:

 

عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:

"كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - وَغُلَامُهُ يَسْلُخُ شَاةً - فَقَالَ:

"يَا غُلَامُ، إِذَا فَرَغْتَ، فَابْدَأْ بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ،

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: "الْيَهُودِيُّ أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟"

قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِي بِالْجَارِ، حَتَّى خَشِينَا أَوْ رُئِينَا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ."

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (ص: 50 و 58) (رقم: 105 و 128)، وأبو داود في "سننه" (4/ 338) (رقم: 5152)، والترمذي في "سننه" - ت شاكر (4/ 333) (رقم: 1943)، والحميدي في "مسنده" (1/ 504) (رقم: 604)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/ 220) (رقم: 25417)، وأحمد في "مسنده" - عالم الكتب (2/ 160) (رقم: 6496)، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (ص: 101) (رقم: 321)، والحسين بن حرب المروزي في "البر والصلة" (ص: 112) (رقم: 216)، والبزار في "مسنده" = البحر الزخار (6/ 371) (رقم: 2388)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3/ 38) (رقم: 2403)، وفي "مكارم الأخلاق" (ص: 384) (رقم: 199_201)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص: 88_89) (رقم: 219_220)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (7/ 220) (رقم: 2792_2793)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (1/ 81)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (12/ 106 و 12/ 107 و 12/ 108) (رقم: 9115 و 9116 و 9117)، وفي "الآداب" (ص: 29) (رقم: 70).

 

واحديث صحيح: صححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 688) (رقم: 2574)

 

فوائد الحديث :

 

وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031هـ) _رحمه الله في "فيض القدير" (5 / 447):

"فمن التزم شرائع الإسلام تأكد عليه إكرام جاره لعظيم حقه." اهـ

 

وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031هـ) _رحمه الله في "فيض القدير" (5 / 448):

"وللجوار مراتب، منها: الملاصقة، ومنها: المخالطة بأن يجمعهما مسجد أو مدرسة أو سوق أو غير ذلك، ويتأكد الحق مع المسلم، ويبقى أصله مع الكافر." اهـ

 

وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031هـ) _رحمه الله في "فيض القدير" (5 / 448)

قال في "العارضة":

"نبه بذلك على أن الحقوق إذا تأكدت بالأسباب، فأعظمها حُرْمَةُ الجِوارِ، وهو قرب الدار، فقد أنزل بذلك منزلة الرحم، وكاد يوجب له حقا في المال." اهـ

 

وقال محمد بن عبد الباقي بن يوسف المصري الأزهري المعروف بـ"أبي عبد الله الزُّرْقَانِيُّ المالكي" (المتوفى 1122 ه) _رحمه الله_ في "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" (4 / 384):

"قال القرطبي: فمن كان مع هذا التأكيد الشديد مضرا لجاره كاشفا لعوراته حريصا على إنزال البوائق به، كان ذلك منه دليلاً على فساد اعتقادٍ ونفاقٍ، فيكون كافرا.

ولا شك أنه لا يدخل الجنة، وأما على امتهانه بما عظم الله من حرمة الجار، ومن تأكيد عهد الجوار، فيكون فاسقا فسقا عظيما، ومرتكبَ كبيرةٍ، يخاف عليه من الإصرار عليها أن يختم له بالكفر،

فإن المعاصي بريد الكفر، فيكون من الصنف الأول، فإن سلم من ذلك، ومات بلا توبة، فأمره إلى الله، وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في رعايته وحفظ حقه." اهـ

 

وقال محمد بن عبد الباقي بن يوسف المصري الأزهري المعروف بـ"أبي عبد الله الزُّرْقَانِيُّ المالكي" (المتوفى 1122 ه) _رحمه الله_ في "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" (4 / 385):

"قال ابن أبي جمرة:

وإكرام الجار من كمال الإيمان، والذي يشمل جميعَ وجوه الإكرام إرادةُ الخيرِ له وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار على اختلاف أنواعه حسيا كان أو معنويا، إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار بالقول أو الفعل،

والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم وغير الصالح كفه عما يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه وإظهار محاسنه والترغيب فيه برفق والفاسق بما يليق به برفق فإن أفاد وإلا هجره قاصدا تأديبه مع إعلامه بالسبب." اهـ

 

وقال محمد بن عبد الباقي بن يوسف المصري الأزهري المعروف بـ"أبي عبد الله الزُّرْقَانِيُّ المالكي" (المتوفى 1122 ه) _رحمه الله_ في "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" (4 / 385):

"وهنا تنبيه وهو أنه إذا أمر بإكرام الجار مع الحائل بين الإنسان وبينه فينبغي أن يرعى حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل،

فلا يؤذيهما بأنواع المخالفات في مرور الساعات، فقد ورد أنهما يسران بالحسنات ويحزنان بالسيئات،

فينبغي إكرامهما ورعاية جانبهما بالإكثار من عمل الطاعات والمواظبة على تجنب المعاصي فهما أولى بالإكرام من كثير من الجيران." اهـ

 

وقال محمد بن عبد الباقي بن يوسف المصري الأزهري المعروف بـ"أبي عبد الله الزُّرْقَانِيُّ المالكي" (المتوفى 1122 ه) _رحمه الله_ في "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" (4 / 385):

"والذي يتحصل عند النظر أن الجار له مراتب:

الأول الملاصقة، والثاني المخالطة بأن يجمعهما مسجد أو مجلس أو بيوت ويتأكد الحق مع المسلم ويبقى أصله مع الكافر والمسلم وقد يكون مع العاصي بالتستر عليه." اهـ

 

فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (1 / 56):

"وإكرامُه يكون بأن يصل إليه برُّه، وأن تحصل له السلامةُ من شرِّه، والجيران ثلاثة:

ـ جارٌ مسلم ذو قربى، له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام.

ـ وجارٌ مسلم ليس بذي قُربى، له حق الإسلام والجوار.

ـ وجار ليس بمسلم ولا ذي قُربى، له حقُّ الجوار فقط.

وأولى الجيران بالإحسان مَن يكون أقربَهم باباً؛ لمشاهدته ما يدخل في بيت جاره، فيتطلَّع إلى إحسانه إليه." اهـ

 

قال الشيخ عطية بن محمد سالم المصري (المتوفى : 1420هـ) _رحمه الله_ في "شرح الأربعين النووية" (39 / 10):

"ويذكر لنا بعض شيوخنا في المدينة، وهو الشيخ عبد الرحمن الإفريقي _رحمه الله_، أنه كان يسكن في المدينة، وأولاده يلعبون مع أولاد الجيران، فتشاجر الأولاد مع بعض،

فجاء والد أحد الأولاد وضرب ولد الشيخ، وذهب الأولاد واشتكوا، فأخذ الرجل وحبس،

وفي الظهر علم الشيخ بذلك، فقال: أين الرجل؟ قالوا: محبوس، فذهب بنفسه إلى الشرطة وقال: هذا ولدي، وأنا وليه، وليس لنا دعوى على أحد." اهـ

 

وقال نصر بن محمد، الشهير بـ"أبي الليث السمرقندي" (المتوفى: 373 هـ) _رحمه الله_ في "تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين" (ص: 143):

"وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْجَارِ، وَلَكِنْ حُسْنُ الْجِوَارِ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنَ الْجَارِ." اهـ

 

وقال نصر بن محمد، الشهير بـ"أبي الليث السمرقندي" (المتوفى: 373 هـ) _رحمه الله_ في "تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين" (ص: 144)

"وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، أَنَّهُ قَالَ:

عَشْرَةُ أَشْيَاءَ مِنَ الْجَفَاءِ:

أَوَّلُهَا: رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلَا يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ وَالْمُؤْمِنِينَ.

وَالثَّانِي: رَجُلٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلَا يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ آيَةً.

وَالثَّالِثُ: رَجُلٌ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ.

وَالرَّابِعُ: رَجُلٌ يَمُرُّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَدْعُ لَهُمْ.

وَالْخَامِسُ: رَجُلٌ دَخَلَ مَدِينَةً فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ، ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمْعَةَ.

وَالسَّادِسُ: رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ نَزَلَ فِي مَحِلَّتِهِمَا عَالَمٌ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ.

وَالسَّابِعُ: رَجُلَانِ تَرَافَقَا وَلَمْ يَسْأَلْ أَحَدُهُمَا عَنِ اسْمِ صَاحِبِهِ.

وَالثَّامِنُ: رَجُلٌ دَعَاهُ رَجُلٌ إِلَى ضِيَافَةٍ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى الضِّيَافَةِ.

وَالتَّاسِعُ: شَابٌّ يَضِيعُ شَبَابُهُ وَهُوَ فَارِغٌ وَلَمْ يَطْلُبِ الْعِلْمَ وَالْأَدَبَ.

وَالْعَاشِرُ: رَجُلٌ شَبْعَانُ وَجَارُهُ جَائِعٌ وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنْ طَعَامِهِ." اهـ

تَمَامُ حُسْنِ الْجِوَارِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:

أَوَّلُهَا: أَنْ يُوَاسِيهِ بِمَا عِنْدَهُ.

وَالثَّانِيْ: أَنْ لَا يَطْمَعَ فِيمَا عِنْدَهُ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَمْنَعَ أَذَاهُ عَنْهُ.

وَالرَّابِعُ: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُ

 

شرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري - (9 / 24):

"ويحصل امتثال الوصية بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة: كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه، حسيةً كانت أو معنويةً." اهـ

 

وقال محمد بن إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني" (المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "التنوير شرح الجامع الصغير" (9 / 397)

"وفيه: رعاية حقه بعد الموت والجار يعم العدل والفاسق والقريب والبعيد،

ثم هم مراتب: فَجَارُ الدَّارِ الملاصِقُ أعظم حقًّا من البعيد، وجارُ المخالطةِ في مسجدٍ أوْ سُوْق، حَقُّهُ دونهما ونحْوُ ذلك،

فيجب رعاية حقه، وأهم الحقوق: تعليمُهُ الشرائِعُ ومناصحتُهُ في دينه. وحقوق الجار كثيرة، من أراد استفاءها، فعليه بالإحياء للإمام الغزالي[1]، فقد أطال نفسه في ذلك." اهـ

 

وقال محمد بن إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني" (المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "التنوير شرح الجامع الصغير" (9 / 398):

"فيه: تنبيه على أن للجار حقاً في مال جاره، فتُعِيْنُهُ إذا احتاج، وتُقْرِضُهُ إذا اقترض." اهـ

 

وقال عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر _حفظه الله_ في "شرح سنن أبي داود" – الشاملة (585 / 14):

"وهذا يدل على عظم شأن حق الجار، وأنه مادام بهذه المنزلة فحقيق أو حري أن يجعل له نصيب من مال الإنسان إذا مات.

فمعنى ذلك أن حق الجار عظيم، وأن الإنسان يحسن إليه ويهدي إليه، ويصل إليه معروفه في حياته مادام أن الرسول صلى الله عليه وسلم ظن أنه سيورث ويجعل له نصيب من ماله إذا مات، وإن لم يحصل التوريث، والتوريث إنما هو للأقارب كما جاء في الكتاب والسنة.

وجاءت أحاديث كثيرة تدل على حق الجار وعلى الابتعاد عن أذاه، وأن أذى الجار أعظم من إيذاء غيره؛ لأن له حقاً على جاره،

ولهذا جاء في الحديث عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) [خ م]،

وقال _صلى الله عليه وسلم_: (والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه) [خ] يعني: غوائله وشروره." اهـ

 

وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (41/ 142_143):

"في فوائده:

1 - (منها): بيان التشديد في حقّ الجار، حتى إنه _صلى الله عليه وسلم_ من كثرة وصيّة جبريل _عَلَيْهِ السَّلامُ_ به ظنّ أنه سيجعله من جملة الورثة.

قال ابن عبد البرّ _رَحِمَهُ اللهُ_:

"في هذا الحديث الحضّ على برّ الجار، وإكرامه، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"،

والله -عَزَّ وَجَلَّ- قد أوصى بالجار ذي القربى، والجار الجنب." انتهى ["التمهيد لابن عبد البرّ" (21/ 41)].

2 - (ومنها): بيان شدّة عناية الشريعة الإسلاميّة بالمحافظة على حقوق الجوار، وهو من الأمور التي يستحسنها العقل، ولو لم يَرِدْ بها الشرع،

ولذا كان أهل الجاهليّة يتفاخرون بها، قال ابن عبد البرّ: وذكر مالك عن أبي حازم بن دينار، أنه قال: كان أهل الجاهلية أبرّ بالجار منكم، وهذا قائلهم يقول [من الكامل]:

نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ ... وَإِلَيْهِ قَبْلِي يَنْزِلُ الْقِدْرُ

مَا ضرَّ جَارٌ أَلَّا أُجَاوِرَه ... أَلَّا يَكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ

أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي الْخِدْرُ

3 - (ومنها): أنه اختُلف في حدّ الجار، قال الإمام البخاريّ _رَحِمَهُ اللهُ_ في "صحيحه": "باب حقّ الجوار في قرب الأبواب" (5674) - حدّثنا حجاج بن منهال، حدّثنا شعبة، قال: أخبرني أبو عمران، قال: سمعت طلحة، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أُهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك باباً" ["صحيح البخاريّ" (5/ 2241)].

قال في "الفتح": "قوله: (أقربهما)؛ أي: أشدّهما قرباً، قيل: الحكمة فيه___أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره، من هدية وغيرها، فيتشوَّف لها، بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لِمَا يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة، وقال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب؛ لأن الهدية في الأصل ليست واجبةً، فلا يكون الترتيب فيها واجباً،

ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أَولى، وفيه تقديم العلم على العمل.

واختُلف في حدّ الجوار، فجاء عن عليّ - رضي الله عنه -: من سمع النداء فهو

جار، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد، فهو جار، وعن عائشة: حدّ الجوار أربعون داراً من كل جانب، وعن الأوزاعيّ مثله،

وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" مثله عن الحسن، وللطبرانيّ بسند ضعيف، عن كعب بن مالك، مرفوعاً: "ألا إن أربعين داراً جار"، وأخرج ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب: أربعون داراً عن يمينه، وعن يساره، ومن خلفه، ومن بين يديه، وهذا يَحْتَمِل كالأُولى، ويَحْتَمِل أن يريد التوزيع، فيكون من كل جانب عشرةً. انتهى ["الفتح" 13/ 568، كتاب "الأدب" رقم (6020)].

قال الجامع _عفا الله عنه_: "عندي أن من صلى الصلوات معك دائماً، ولا سيّما صلاة الصبح هو جار لك؛ لأن هذا يدلّ على قربه من دارك، ويرى كل ما يدخل في بيتك، أو بعضه، ولو صحّ حديث: "أربعون داراً جارٌ" لكان نصّاً في التحديد، لكنه ضعيف[2]، فلا يصلح للاحتجاج به، فتنبّه، والله تعالى

أعلم." اهـ

 

 

 

 

 

 

71- باب الكرم

 

129 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟"

قَالَ: «أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ»،

قَالُوا: "لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ."

قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ: يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ»،

قَالُوا: "لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ."

قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟»

قَالُوا: نَعَمْ،

قَالَ: «فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا»

[قال الشيخ الألباني: صحيح]

 

رواة الحديث:

 

* حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ (ثقة ثبت: 227 هـ):

محمد بن سلام بن الفرج السلمى مولاهم ، أبو عبد الله، البخارى البيكندى، كبار الآخذين عن تبع الأتباع، روى له:  خ 

 

* قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ (ثقة ثبت: ت 187 هـ):

عبدة بن سليمان الكلابي، أبو محمد الكوفي (يقال: اسمه عبد الرحمن)، من الوسطى من أتباع التابعين، روى له:  خ م د ت س ق 

 

* عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (ثقة ثبت: ت 100 و بضع و أربعون هـ بـ المدينة):

عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي العُمَرِيُّ المدنيُّ، أبو عثمان، من صغار التابعين، روى له:  خ م د ت س ق

 

* عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ (ثقة: ت 120 هـ):

سعيد بن أبى سعيد (كيسان) الْمَقْبُرِيُّ، أبو سعد المدني، من الوسطى من التابعين، روى له:  خ م د ت س ق 

 

* عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (57 هـ):

عبد الرحمن بن صخر اليماني، أبو هريرة الدوسى، صحابي جليل، روى له:  خ م د ت س ق

 

نص الحديث:

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟"

قَالَ: «أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ»،

قَالُوا: "لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ."

قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ: يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ»،

قَالُوا: "لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ."

قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟»[3]

قَالُوا: نَعَمْ،

قَالَ: «فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ[4] إِذَا فَقِهُوا[5]»

 

وفي رواية لمسلم:

عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:

«النَّاسُ مَعَادِنٌ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقهُوا، وَالأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، ومَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (ص: 58) (رقم: 129)، وفي "صحيحه" (4/ 140) (رقم :3353)، ومسلم في "صحيحه" (4/ 1846) (رقم : 2378)، السنن الكبرى للنسائي (10/ 131) (رقم: 11185)، وأحمد في "مسنده" - عالم الكتب (2/ 431) (رقم: 9568)، وفي "فضائل الصحابة" (2/ 831) (رقم: 1518)، والدارمي في "سننه" (1/ 299) (رقم: 229)، والبزار في البحر الزخار (15/ 118 و 15/ 136) (رقم: 8418 و 8448)، وغيرهم.

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (7/ 1723) (رقم: 3996)

 

فوائد الحديث :

 

شرح النووي على مسلم (16/ 78) :

* "وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ شَرِيفَةً كانت___الْفُرُوعُ كَذَلِكَ غَالِبًا،

* وَالْفَضِيلَةُ فِي الْإِسْلَامِ بِالتَّقْوَى لكن إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا شَرَفُ النَّسَبِ ازْدَادَتْ فَضْلًا

 

شرح النووي على مسلم (15/ 134) :

"قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَأَصْلُ الْكَرَمِ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَقَدْ جَمَعَ يُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مَعَ شَرَفِ النُّبُوَّةِ مَعَ شَرَفِ النَّسَبِ وَكَوْنُهُ نَبِيًّا بن ثَلَاثَةِ أَنْبِيَاءَ مُتَنَاسِلِينَ أَحَدُهُمْ خَلِيلُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ شَرَفُ عِلْمِ الرُّؤْيَا وَتَمَكُّنِهِ فِيهِ وَرِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَمُلْكِهَا بِالسِّيرَةِ الْجَمِيلَةِ وَحِيَاطَتِهِ لِلرَّعِيَّةِ وَعُمُومِ نَفْعِهِ إِيَّاهُمْ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْقَاذِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ تِلْكَ السِّنِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ[6]

 

شرح النووي على مسلم (15/ 135) :

"أَصْحَاب الْمُرُوءَاتِ وَمَكَارِمِ الأخلاق في الجاهلية اذا اسلموا وفقهوا فَهُمْ خِيَارُ النَّاسِ." اهـ

 

شرح النووي على مسلم (15/ 135) :

"قَالَ الْقَاضِي : "وَقَدْ تَضَمَّنَ الْحَدِيثُ فِي الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْكَرَمَ كُلَّهُ عُمُومَهُ وَخُصُوصَهُ وَمُجْمَلَهُ وَمُبَانَهُ إِنَّمَا هُوَ الدِّينُ مِنَ التَّقْوَى وَالنُّبُوَّةِ وَالْإِعْرَاقِ فِيهَا وَالْإِسْلَامِ مَعَ الْفِقْهِ."

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (16 / 70)

من كَانَت لَهُ مأثرة وَشرف فِي الْجَاهِلِيَّة وَأسلم وَفقه فِي الدّين فقد أحرز مأثرته الْقَدِيمَة وشرفه الثَّابِت إِلَى مَا استفاده من المزية بِحَق الدّين، وَمن لم يسلم فقد هدم شرفه وضيع قديمه،[7]

 

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري - (14 / 113)

من كانت له رياسة وشرف في الجاهلية فأسلم وفقه في الدين فقد أحرز رياسته القديمة وشرفه الثابت إلى ما استفاده من المزيد بحق الدين ومن لم يسلم فقد هدم شرفه وضيع قديمه[8]

 

فتح الباري- تعليق ابن باز - (6 / 529)

قوله: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام" وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها بل من كان شريفا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية،

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 45) لأبي العباس القرطبي :

"الحَضُّ على مراعاةِ مقادير الناس ، ومراتبهم ، ومناصبهم ، فيعامل كلُّ واحد منهم بما يليقُ بحاله ، وبما يلائمُ منصبه في الدينِ والعلمِ والشَّرَفِ والمرتبة ؛ فإنَّ الله تعالى قد رتَّبَ عبيده وخَلْقَه ، وأعطى كلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه" اهـ

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (19/ 138) :

"وفيه ما يدلّ على شرف الفقه في الدين، وأن العالم يجوز له أن يجيب بحسب ما يظهر له، ولا يلزمه أن يستفصل السائل عن تعيين الاحتمالات، إلا إن خاف على السائل غلطًا، أو سوء فهما، فيستفصله، كما قررناه في الأصول ." اهـ

 

القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 610) لابن العربي :

"فلن يشرِّف المرء ولا يجلّ قدره إلا قدر تقواه، كما أنه لا فخر بحسب ولا نسب ولا استعداد بهما إنما الاستعداد بالدين." اهـ[9]

التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوى - (1 / 900)

اختلاف الناس في الغرائز والطبائع كاختلاف المعادن فكما أن المعدن منه ما لا يتغير فكذا صفة الشرف لا تتغير في ذاتها

 

شرح المصابيح لابن الملك (1/ 191)

وفيه: إشارة إلى أن ما في معادن الطبائع من جواهر مكارم الأخلاق ينبغي___أن يُستخرجَ برياضة النفوس، كما تُستخرج جواهر المعادن بالمقاساة والتعب." اهـ

 

فتح الباري- تعليق ابن باز - (6 / 529_530)

وأما قوله (إذا فقهوا)، ففيه : إشارة إلى أن الشرف الإسلامي لا يتم إلا بالتفقه في الدين، وعلى هذا فتنقسم الناس أربعة أقسام مع ما يقابلها:

الأول شريف في الجاهلية أسلم وتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية لم يسلم ولم يتفقه.

الثاني شريف في الجاهلية أسلم ولم يتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية لم يسلم وتفقه.

الثالث شريف في الجاهلية لم يسلم ولم يتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية أسلم ثم تفقه.

الرابع: _____شريف في الجاهلية لم يسلم وتفقه ويقابله مشروف في الجاهلية أسلم ولم يتفقه

#فأرفع الأقسام من شرف في الجاهلية ثم أسلم وتفقه، ويليه من كان مشروفا ثم أسلم وتفقه، ويليه من كان شريفا في الجاهلية ثم أسلم ولم يتفقه، ويليه من كان مشروفا ثم أسلم ولم يتفقه. وأما من لم يسلم فلا اعتبار به سواء كان شريفا أو مشروفا سواء تفقه أو لم يتفقه والله أعلم.

 

التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوى - (1 / 900)

فإن الانسان إنما يتميز عن الحيوان بالعلم والشرف الاسلامي لا يتم إلا بالتفقه في الدين[10]

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (1 / 284)

فَمَنْ كَانَ اسْتِعْدَادُهُ أَقْوَى كَانَتْ فَضِيلَتُهُ أَتَمَّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا فِي مَعَادِنِ الطِّبَاعِ مِنْ جَوَاهِرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَخْرَجَ بِرِيَاضَةِ النُّفُوسِ كَمَا تُسْتَخْرَجُ جَوَاهِرُ الْمَعَادِنِ بِالْمُقَاسَاةِ وَالتَّعَبِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (1 / 284)

فَالتَّفَاوُتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِحَسَبِ الْأَنْسَابِ، وَفِي الْإِسْلَامِ بِالْأَحْسَابِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِالثَّانِي،

 

الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي - (1 / 98)

الناس يتفاوتون في مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، وفيما يذكر عنهم من المآثر على حسب الاستعداد، ومقدار الشرف- تفاوت المعادن؛ فإن منها ما يستعد للذهب، ومنها ما يستعد للفضة، وهلم جرا، إلى غير ذلك من الجواهر المعدنية حتى ينتهي إلى الأدنى فالأدنى؛ كالحديد، والكحل، والزرنيخ والنورة.

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (21 / 36)

فمن كان ذا شرف في الجاهلية فأسلم لم يزده الإسلام إلا شرفًا ؛ فإنَّ تفقه في دين الله ، فقد وصل إلى غاية الشرف ؛ إذ قد اجتمعت له أسباب الشرف كلها ، فيصدق عليه قوله : (( فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ))[11]

 

الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني - (19 / 178)

وفيه اشارة إلى أن شرف الاسلام لا يتم إلا بالتفقه في الدين

 

مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (1 / 305)

(إذا فَقِهُوْا)...وهذا القيد يفيد أن الإسلام يرفع اعتبار التفاوت المعتبر في الجاهلية، فإن التفاوت في الإسلام بحسب الأحساب أي مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وفي الجاهلية بحسب الأنساب. ولا يعتبر هذا الثاني إلا بالأول،

فإذا تحلى الرجل بالعلم والحكمة استجلب شرف النسب الأصلي، فيجتمع شرف النسب والحسب،

ففيه دليل على أن الوضيع العالم أرفع من الشريف الجاهل، فالعلم والحكمة والحكمة يرفع كل من لم يرفع.

 

الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي - (1 / 98)

فربما ظن أحدهم أن المآثر والمكارم لا عبرة بها في حكم الدين؛ فنبأهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله تعالى- كما جعل التفاوت في الجواهر المعدنية- جعل التفاوت في الأوضاع البشرية، وإنما صار ساقط الاعتبار؛ لانعدام الدين، فإذا دخل الرجل في دين الله، وفقه فيه، وكان في الجاهلية من ذوي المآثر؛ فإنه من خيار الناس في الإسلام؛ كما كان من خيارهم في الجاهلية، ويفضل بتلك المآثر على أقرانه في الدين والعلم إذا لم يكن لهم ذلك.

 

شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - (2 / 661)

فالتفاوت في الجاهلية بحسب الأنساب، وشرف الآباء، وكرم الأصل، وفي الإسلام بحسب العلم والحكم، فالشرف الأول موروث، والثاني مكتسب.

 

مجموع الفتاوى ( ط: دار الوفاء - تحقيق أنور الباز ) - (11 / 196)

فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ .[12]

 

مجموع الفتاوى ( ط: دار الوفاء - تحقيق أنور الباز ) - (19 / 29)

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْعَرَبِ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ جِنْسَ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ وَجِنْسَ بَنِي هَاشِمٍ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا } . لَكِنَّ تَفْضِيلَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ فَإِنَّ فِي غَيْرِ الْعَرَبِ خَلْقًا كَثِيرًا خَيْرًا مِنْ أَكْثَرِ الْعَرَبِ

 

إكمال المعلم بفوائد مسلم - (8 / 118)

هذا التعارف لأمر جعله الله فيها وجبلها عليه، وأشبه ما فيه أن يكون تعارفها موافقة صفاتها التى خلقت عليها، وتشابهها فى شيمها التى خلقت بها، وقيل: تعارفها أنها خلقت مجتمعة، ثم فصلت فى أجسادها كل قسم فى جسدين، فمن وافق قسمه ألفه، ومن باعده نافره، وقيل: هو ما يعرف الله به إليها من صفاته ودلها به عليه من لطفه وأفعاله، فكل زوج عُرفَ من الإجزاء به تعرف إلى الله بمثل ما تعرف هو به إلفه. وقال الخطابى: تآلفها: هو ما خلقها عليه من السعادة أو الشقاوة في المبدأ الأول. وفيه تقدمها على خلق الأجساد، كما جاء فى الحديث، وأخبر أنه قسمها قسمين: مختلفة ومؤتلفة." اهـ

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 68) :

"شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بالمعادن؛ فمنهم من يكون صالحًا، ويكون ما يدرونه في الغالب على جنسهم، فإذا بدر من لا يشاكلهم استنكروه فلذلك قال: {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوٍء وما كانت أمك بغيا}.

فينبغي للإنسان أن يعلم أن هذا يقع في الأكثر، وقد ندر أن يأتي الخبيث من الطيب، ويأتي الطيب من الخبيث." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 284) :

"شَبَّهَهُمْ بِالْمَعَادِنِ فِي كَوْنِهَا أَوْعِيَةً لِلْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَالْفِلِزَّاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، الْمَعْنِيُّ بِهَا الْعُلُومُ وَالْحِكَمُ، فَالتَّفَاوُتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِحَسَبِ الْأَنْسَابِ، وَفِي الْإِسْلَامِ بِالْأَحْسَابِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِالثَّانِي." اهـ[13]

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 275) لابن هبيرة الشيباني :

"* في هذا الحديث ما يدل أن الكرم الذي يعنيه العرب: الشرف، وإنما هو التقوى؛ لقول الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لما سئل عن أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم)، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، إنما يريدون عادتهم، فقال لهم: (فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)، وكأنهم أرادوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعين لهم فخرًا في العرب خاصة، فإن إمساكهم عن ذلك موافقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فهم مقصودهم، فلما قالوا في المرة الثانية: ليس عن هذا نسألك، أجابهم بأن قال: (فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، يعني - صلى الله عليه وسلم -: من كنتم تعدونهم خيارًا في الجاهلية فلا اعتبار بذلك، فإنهم إذا أسلموا وفقهوا كانوا خيارًا.

فأما إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - ليوسف من بين الأنبياء؛ فلأنه معرق في الكرم؛ فإنه نبي، ابن نبي، ابن نبي، ابن نبي." اهـ

 

المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 301_302) للزيداني :

"بعض المعادن يخرج منها الذهب، وبعضها يخرج منها الفضة، وبعضها يخرج منها النحاس، وغير ذلك، فكذلك الناس يكون بعضهم معدن الأخلاق الحميدة، وبعضهم معدن الأخلاق الذميمة،

فمن___كان في الجاهلية صاحب أخلاق حميدة وأعمال وأحوال وأقوال مرضيَّةٍ كالحلم والكرم والكلام الطيب والشجاعة والسخاوة وغيرها، ثم أسلم وصار فقيهًا في الدين= فهو خير من الذي أسلم وفقه في الدين، ولم يكن له غير الفقه صفة مرضيَّة.

 

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (3/ 234)

قال ابن الجوزي: يستفاد من الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة عن ذي فضل وصلاح،

فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته فيتخلص من الوصف المذموم وكذا عكسه.

 

منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (4/ 184) لمحمد حمزة قاسم :

"فقه الحديث : دل هذا الحديث على وصف إبراهيم عليه السلام بالخلة، وهي إفراد الله تعالى دون غيره بالمحبة الخالصة، كما قال عز وجل: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)." اهـ

 

منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (4/ 226)

فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل النسب إذا اقترن بالدين والصلاح والعلم في دين الله والفقه في شريعته، وهذا هو أعلى المقامات وأسماها بعد مقام النبوة والصحبة، فإن الناس في نظر الإِسلام تختلف مراتبهم ومقاماتهم (1) على حسب الترتيب الآتي. المرتبة الأولى: من جمع بين النسب والدين والصلاح والفقه في الشريعة، وهذا هو أعلى المقامات. المرتبة الثانية: من جمع بين الدين والصلاح والفقه وكان خامل النسب. المرتبة الثالثة: من جمع بين النسب والدين والصلاح ولم يكن فقيهاً. المرتبة الرابعة: من جمع بين الدين والصلاح، ولم يكن شريفاً ولا فقيهاً. المرتبة الخامسة: من جمع بين الإِسلام والنسب ولم يكن صالحاً ولا فقيهاً. المرتبة السادسة: من كان مسلماً فقط، ولا توجد فيه أي مزية من المزايا وهذا هو أدنى الدرجات.

ثانياً: اعتبار الكفاءة___في النسب بالنسبة إلى الزواج. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة "

قال في " زهر الأدب في مفاخر العرب " : الكفاءة عندنا معاشر الحنابلة معتبرة، وكذا عند الشافعية، وفي إحدى الروايتين عن مالك، ثم قال: ومن الجهل أن يعتقد أحد عدم التفاضل، والتفاضل واقع في أنواع الموجودات، فضل الله السماء السابعة على سائر الموجودات، ومكة على باقي البلاد، وجبريل وميكائيل وإسرافيل على غيرهم من الملائكة. وروى الدارقطني عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء "

وفي حديث رواه ابن ماجه والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم " ثم قال: وقوله: " ليس لعربي فضل على عجمي " " والمؤمنون تتكافأ دماؤهم " إنما المعنى في هذا كما قال ابن قتيبة أن الناس من المؤمنين كلهم سواء في الأحكام والمنزلة والكفاءة إنما هي في الدين والخلق.

ثالثاً: أن أصلح الناس للولاية أزهدهم فيها، لما يدل عليه ذلك من شدة أمانته وتقديره للمسؤولية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام." اهـ

 

جمهرة أنساب العرب لابن حزم (1/ 1) :

"وإن كان الله تعالى قد حكم بأن الأكرم هو الأتقى، ولو أنه ابن زنجية لغية[14]، وأن العاصى والكافر محطوظ الدرجة، ولو أنه ابن نبيين، فقد جعل تعارف الناس___بأنسابهم غرضاً له تعالى في خلقه إيانا شعوباً وقبائل؛ فوجب بذلك أن علم النسب علم جليل رفيع، إذ به يكون التعارف. وقد جعل الله تعالى جزءاً منه تعلّمه لا يسع أحدا جهله، وجعل تعالى جزءاً يسيراً منه فضلاً تعلمه، يكون من جهله ناقص الدرجة في الفضل. وكلّ علم هذه صفته فهو علم فاضل، لا ينكر حقه إلا جاهل أو معاند.

فأما الفرض من علم النسب، فهو أن يعلم المرء أن محمداً _صلى الله عليه وسلم_ الذي بعثه الله تعالى إلى الجنّ والإنس بدين الإسلام[15]، هو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي، الذي كان بمكة، ورحل منها إلى المدينة. فمن شك في محمد- صلى الله عليه وسلم- أهو قرشي، أم يماني، أم تميمي، أم أعجمي، فهو كافر، غير عارف بدينه، إلا أن يعذر بشدّة ظلمة الجهل؛ ويلزمه أن يتعلم ذلك، ويلزم من صحبه تعليمه أيضاً.

ومن الفرض في علم النسب أن يعلم المرء أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد فهر ابن مالك بن النضر بن كنانة؛ ولو وسع جهل هذا لأمكن إدعاء الخلافة لمن لا تحلّ له؛ وهذا لا يجوز أصلا. وأن يعرف الإنسان أباه وأمّه، وكلّ من يلقاه بنسب في رحم محرّمة، ليجتنب ما يحرم عليه من النكاح فيهم. وأن يعرف كل من يتصل به برحم توجب ميراثاً، أو تلزمه صلة أو نفقة أو معاقدة أو حكماً ما، فمن جهل هذا فقد أضاع فرضاً واجباً عليه، لازماً له من دينه." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (38/ 214_216)

في فوائده:

1 - (منها): ما قال القاضي عياض - رَحِمَهُ اللهُ -: قد تضمَّن الحديث في الأجوبة

الثلاثة أن الكرم كله عمومه، وخصوصه، ومجمله، ومبيّنه إنما هو الدّين، من

التقوي، والنبوة، والإعراق فيها، والإسلام مع الفقه، فإذا تمّ ذلك، أو ما

حصل منه مع شرف الأب المعهود عند الناس، فقد كان شرف الشريف، وكرم

الكريم. انتهى ["إكمال المعلم" (7/ 362)].

2 - (ومنها): أنه إنما قيّد بقوله: "إذا فقهوا" والحال أن كلّ من أسلم، وكان شريفًا في الجاهلية، فهو خير من الذي لَمْ يكن له الشرف فيها؛ لأنَّ المعنى ليس على ذلك، فإن الوضيع العالم خير من الشريف الجاهل، والعلم

يرفع كلّ من لَمْ يُرْفَع ["عمدة القاري" (15/ 245)].

وقد أخرج مسلم عن عامر بن واثلة، أن نافع بن عبد الحارث، لَقِي عمر - رضي الله عنه - بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزي، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا،

قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله - عَزَّوَجَلَّ -، وإنه عالم

بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، وَيضَعُ به آخرين". انتهى [تقدّم في هذا الشرح في كتاب "صلاة المسافرين وقصرها" برقم [48/ 1897] (817)].

ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من البسيط]:

الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لَا عِمَادَ لَهُ ... وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ ___

3 - (ومنها): أنه يدلّ على شرف الفقه في الدين.

4 - (ومنها): أن العالم يجوز له أن يجيب بحسب ما يظهر له، ولا يلزمه

أن يستفصل السائل عن تعيين الاحتمالات، إلَّا إن خاف على السائل غلطًا، أو

سوء فهم، فيستفصله ["المفهم" (6/ 227)].

5 - (ومنها): ما قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهَ -: قول السائل: "من أكرم الناس؟ "؛

معناه: مَن أَولى بهذا الاسم، ولذلك أجابه النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجواب كُلِّيّ، فقال:

"أتقاهم"، وهذا مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الآية

[الحجرات: 13]،

فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك، نَزَل عن ذلك إلى ما يقابله، وهو الخصوص بشخص معين، فقال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ لأنَّه نبيّ ابن نبيّ ابن نبيّ ابن نبيّ، فإنَّ هذا لَمْ يجتمع لغيره من ولد آدم، فهو أحقّ الناس المعنيِّين بهذا الاسم، فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك تبيّن له أنهم سألوه عمن هو أحقّ بهذا الاسم من العرب، فأجابهم بقوله: "فعن معادن العرب تسألوني؟ "؛ أي: عن أكرم أصولها، وقبائلها؟ وقد تقدَّم أن المعدن هو مأخوذ من عَدَن؛ أي: أقام، والعَدْن: الإقامة، ولمّا كانت أصول قبائل العرب ثابتة سُمِّيت معادن، ثم قال: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، فمعنى هذا: أن من اجتمع له خصال شرف زمن الجاهلية، من شرف الآباء، ومكارم الأخلاق، وصنائع المعروف، مع شرف دين الإسلام، والتفقه فيه، فهو الأحق بهذا الاسم، وقد تقدَّم أن الكرم: كثرة الخير، والنفع، ولمّا كان تقوى الله تعالى هو الذي حصل به خير الدنيا والآخرة مطلقًا، كان المتّصف به أحقّ؛ فإنَّه أكرم الناس، لكن هذه قضية عامة، فلما نظر النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيمن تعيَّن في الوجود بهذه الصفة، ظهر له أن الأنبياء أحقّ بهذا المعنى؛ إذ لا يبلغ أحد درجتهم، وإن أحقَّهم بذلك من كان مُعْرِقًا في النبوة، وليس ذلك إلَّا يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامْ -، كما ذَكَرَ، ويخرج منه الردّ على من قال: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء؛ إذ لو كانوا كذلك لشاركوا يوسف في

ذلك المعنى.___

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن بعضهم تعقّب هذا الاستنباط، لكن الذي يظهر لي هو الذي قاله القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

قال: ثم إنه لمّا نظر النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الأعم والأخصّ، ظهر أن الأحقّ بذلك المعنى نوع من الأنواع المتوسطة بين الجنس الأعم، والنوع الأخص، وظهر له أنهم أشراف العرب، ورؤساؤهم، إذا تفقهوا في الدين، وعَلِمُوا، وعَمِلُوا، فحازوا كلّ الرُّتَب الفاخرة؛ إذ اجتمعَ لهم شرف الدنيا والآخرة. انتهى كلام القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}." اهـ



[1] كان الغزالي _رحمه الله_ يمر بأربع مراحل: حرحلة الاعتزال، ومرحلة الكلام، ومرحلة التصوف، وفي المرحلة الأخيرة مال إلى إلى مذهب السلف أهل السنة الحقيقية، والله أعلم.

[2] راجع: "إرواء الغليل" للشيخ الألبانيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (6/ 100).

[3]  وفي فتح الباري لابن حجر (6/ 529): "أَيْ: أُصُولًا مُخْتَلِفَةً، وَالْمَعَادِنُ: جَمْعُ مَعْدِنٍ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْأَرْضِ، فَتَارَةً يَكُونُ نَفِيسًا، وَتَارَةً يَكُونُ خَسِيسًا، وَكَذَلِكَ النَّاسُ." اهـ

[4]  وفي فتح الباري لابن حجر (6/ 529): "قَوْلُهُ (خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ)

وَجْهُ التَّشْبِيهِ: أَنَّ الْمَعْدِنَ لَمَّا كَانَ إِذَا اسْتُخْرِجَ : ظَهَرَ مَا اخْتَفَى مِنْهُ، وَلَا تَتَغَيَّرُ صِفَتُهُ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الشَّرَفِ لَا تَتَغَيَّرُ فِي ذَاتِهَا، بَلْ مَنْ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ رَأْسٌ. فَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّ شَرَفُهُ، وَكَانَ أَشْرَفَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَشْرُوفِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ." اهـ

[5]  وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/ 245) للعيني :

"وَقَوله: (فقهوا) _بِكَسْر الْقَاف_

مَعْنَاهُ : إِذا فَهموا وَعَلمُوا، وَهُوَ من بَاب علم يعلم أَعنِي: بِكَسْر الْقَاف فِي الْمَاضِي وَبِفَتْحِهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وَأما: فقه، بِضَم الْقَاف: يفقه، كَذَلِك فَمَعْنَاه: صَار فَقِيها عَالما، وَالْفِقْه فِي الْعرف خَاص بِعلم الشَّرِيعَة، وَيخْتَص بِعلم الْفُرُوع." اهـ

وفي عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد (2/ 488) للسيوطي :

"قال أبو البقاء: الجيد هنا ضم القاف من فقُه يفقه إذا صار فقيهًا، كظَرُف يظرف فهو ظريف. وهو لازم لا مفعول له.

وأما فقِه بكسر القاف يفقَه بالفتح، فهو بمعنى فهِم الشيء فهو متعدّ." اهـ

[6]  وفي إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 361) للقاضي عياض :

"وهذا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فهم أربعة أنبياء على نسق. وأصل الكرم الجمع وكثرة الخير، فيوسف - عليه السلام - قد جمع كل مكارم الأخلاق التى تفضل بها الأنبياء إلى شرف النبوة، وشرف النسب، وعلم الرؤيا وغيرها، وشرف الرئاسة فى الدنيا، وكونه على خزائن الأرض وحياطته وعمارتها بما أمر به من جمعه الطعام، وادخاره لنفقتهم، وكونه على خزائنهم وأرزاقهم." اهـ

[7]  وفي المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (19/ 137) لأبي العباس القرطبي :

"من اجتمع له خصال شرف زمن الجاهلية من : شرف الآباء ، ومكارم الأخلاق ، وصنائع المعروف ، مع شرف دين الإسلام ، والتفقه فيه ، فهو الأحق بهذا الاسم." اهـ

[8]  وفي أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) (3/ 1578) للخطابي :

"من كانت له مأثرةٌ وشرفٌ في الجاهلية فأسلم وحَسُن إسلامه، وفَقِهَ في الدِّين، فقد أحرز مأثرته القديمة وشرفه التليد إلى ما استفاده من المزيد بحق الدين، ومن لم يسلم فقد هدَمَ شرفُه، وضيَّع قديمه."

[9]  وفي القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 610) :

"الرجل لا تكون له مروءة إلا بحسن الخلق، وهي مأخوذة من المرء؛ فإن الرجل لا يكون رجلاً بصورته الظاهرة التي يشاركه فيها البهائم وإنما يكون امرءاً بأخلاقه الباطنة التي بها شرف الآدمية فلا يكون سبعاً ضارياً في الأدَاية، ولا ثعلباً في المكر والخيانة، ولا خنزيراً في الجشع والحرص إلى غير ذلك من الأخلاق، البهيمية الدنيئة."

[10]  وفي فيض القدير (3/ 229)

ففيه إشارة إلى أن نوع الإنسان إنما يتميز عن بقية الحيوان بالعلم وأن الشرف الإسلامي لا يتم إلا بالفقه وأنه الفضيلة العظمى والنعمة الكبرى

[11]  وفي المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 302) للزيداني :

"مَنْ كان له شرف على غيره قبل الإسلام، فكذلك يكون له شرف على غيره في الإسلام إذا كان مساويًا لغيره في العلم والإسلام؛ لأنه إذا كان مساويًا شَرُفَ من النسب، وليس لغيره ذلك الشرف فلا شكَّ أن الذي له شرفٌ أشرفُ مِنَ الذي ليس له شرفٌ، وأما الذي له شرفٌ قبل الإسلام فأسلم، ولم يكن فقيهًا في الدين، فليس له شرف على مَنْ هو فقيه في الدين، وإن لم يكن له شرف قبل الإسلام." اهـ

[12]  وفي التوضيح لشرح الجامع الصحيح (19/ 376) لابن الملقن :

"من اتقى ربه جل وعز شرف؛ لأن التقى يحمله على أسباب العز؛ لأنها تبعده عن الطمع في كثير من المباح فضلاً عن غيره من المآثم، وما ذاك إلا من أسره هواه." اهـ

[13]  وفي منهاج السنة النبوية (8/ 215) لابن تيمية :

"يَّنَ أَنَّ الْأَنْسَابَ كَالْمَعَادِنِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ كَمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَعْدِنِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ.___وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تُنْبِتُ الذَّهَبَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تُنْبِتُ الْفِضَّةَ. فَهَكَذَا مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ يَلِدُ الْأَفَاضِلَ، كَانَ أَوْلَادُهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ عَرَفَ أَنَّهُ يَلِدُ الْمَفْضُولَ. لَكِنَّ هَذَا سَبَبٌ وَمَظِنَّةٌ وَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا ; فَرُبَّمَا تَعَطَّلَتْ أَرْضُ الذَّهَبِ، وَرُبَّمَا قَلَّ نَبْتُهَا ; فَحِينَئِذٍ تَكُونُ أَرْضُ الْفِضَّةِ أَحَبَّ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ أَرْضٍ مُعَطَّلَةٍ. وَالْفِضَّةُ الْكَثِيرَةُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَهَبٍ قَلِيلٍ لَا يُمَاثِلُهَا فِي الْقَدْرِ.

فَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْأَنْسَابِ الْفَاضِلَةِ يُظَنُّ بِهِمُ الْخَيْرُ، وَيُكْرَمُونَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. فَإِذَا تَحَقَّقَ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ، كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَظِنَّةِ. وَأَمَّا مَا عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَى الْمَظَانِّ وَلَا عَلَى الدَّلَائِلِ، إِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ هُوَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا يَجْتَزِئُ بِالْمَظِنَّةِ. فَلِهَذَا كَانَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَهُ أَتْقَاهُمْ." اهـ

[14]  يقال : هو لغية، بفتح الغين وكسرها، أي لزنية لا لنكاح صحيح، ويقال كلمة لاغية اي فاحشة.

[15]  قال الله _تعالى_ : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة