الحديث الثاني والتسعون من كتاب بهجة قلوب الأبرار

 

الحديث الثاني والتسعون: من آداب العشرة بين الزوجين.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:

"دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ:

"يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُهُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عليَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟"

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ ويكفي بنيك)." متفق عليه

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه: البخاري في "صحيحه" رقم: (رقم: 2211) ومسلم في "صحيحه" (رقم: 1714)، و(أبو داود) في "البيوع" (3532 و 3533)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة" (8/ 246 - 247) (رقم: 5420)، وفي "الكبرى" (5982)، و (ابن ماجه) في "التجارات" (2393)، و (الشافعيّ) في "مسنده" 2/ 64)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه" (9/ 126)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (4/ 456)، و (أحمد) في "مسنده" (6/ 39 و 64 و 50 و 206)، و (ابن راهويه) في "مسنده" (2/ 224)، و (الدارميّ) في "سننه" (2/ 159)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4255 و 4256 و 4257 و 4258)، و (ابن الجارود) في "المنتقى" (1/ 256)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (4/ 234)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (4/ 164)، و (الطبرانيّ) في "الكبير" (25/ 71 - 72)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (8/ 98)، و (ابن الجعد) في "مسنده" (1/ 392)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (7/ 466 و 477 و 10/ 269 - 270)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة" (2149 و 2397)، والله تعالى أعلم.

 

قال المؤلف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي _رحمه الله_ في "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" – ط. الوزارة (ص: 190):

"أخذ العلماء من هذا الحديث فقها كثيرا، سأشير إلى ما يحضرني منه.

أن المستفتي والمتظلم يجوز أن يتكلم بالصدق فيمن تعلق به الاستفتاء والتظلم، وليس من الغيبة المحرمة، وهو أحد المواضع المستثنيات من الغيبة، وَيَجْمَعُ الْجَمِيْعَ الحاجةُ إلى التكلم في الغير، فإن الغيبة المحرمة في ذكرك أخاك بما يكره،

فإن احتيج إلى ذلك _كما ذكرنا وكما في النصيحة الخاصة، أو العامة، أو لا يعرف إلا بلقبه - جاز ذلك بمقدار ما يحصل به المقصود.

 

قَالَ الله تَعَالَى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]

وقال تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]

وقال تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]

 

وقال النووي _رحمه الله_ في كتابه "رياض الصالحين" – ط. الرسالة (ص: 432_433):

"باب مَا يُباح من الغيبة:

اعْلَمْ أنَّ الغِيبَةَ تُبَاحُ لِغَرَضٍ صَحيحٍ شَرْعِيٍّ لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِهَا, وَهُوَ سِتَّةُ أسْبَابٍ:

الأَوَّلُ: التَّظَلُّمُ, فَيَجُوزُ لِلمَظْلُومِ أنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ والقَاضِي وغَيرِهِما مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةٌ, أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ, فيقول: ظَلَمَنِي فُلاَنٌ بكذا.

الثَّاني: الاسْتِعانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ, وَرَدِّ العَاصِي إِلَى الصَّوابِ, فيقولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتهُ عَلَى إزالَةِ المُنْكَرِ: فُلانٌ يَعْمَلُ كَذا, فازْجُرْهُ عَنْهُ ونحو ذَلِكَ ويكونُ مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى إزالَةِ المُنْكَرِ, فَإنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَاماً.

الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ, فيقُولُ لِلمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبي, أَوْ أخي, أَوْ زوجي, أَوْ فُلانٌ بكَذَا, فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَمَا طَريقي في الخلاصِ مِنْهُ, وتَحْصيلِ حَقِّي, وَدَفْعِ الظُّلْمِ؟ وَنَحْو ذَلِكَ, فهذا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ, ولكِنَّ الأحْوطَ والأفضَلَ أنْ يقول: مَا تقولُ في رَجُلٍ أَوْ شَخْصٍ, أَوْ زَوْجٍ, كَانَ مِنْ أمْرِهِ كذا, فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الغَرَضُ مِنْ غَيرِ تَعْيينٍ وَمَعَ ذَلِكَ, فالتَّعْيينُ جَائِزٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ في حَدِيثِ هِنْدٍ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

الرَّابعُ: تحذير المسلمين مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ, وذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

* مِنْهَا: جَرْحُ المَجْرُوحينَ مِنَ الرُّواةِ والشُّهُودِ, وذلكَ جَائِزٌ بإجْمَاعِ المُسْلِمينَ, بَلْ وَاجِبٌ للْحَاجَةِ.

* ومنها: المُشَاوَرَةُ في مُصاهَرَةِ إنْسانٍ, أو مُشاركتِهِ, أَوْ إيداعِهِ, أو معاملته, أوغير ذَلِكَ, أَوْ مُجَاوَرَتِهِ, ويجبُ عَلَى المشاوَر أنْ لا يخفي حاله, بل يذكر المساوىء التي فيه بنية النصيحة.

* ومنها: إِذَا رأى مُتَفَقِّهاً يَتَرَدَّدُ إِلَى مُبْتَدِعٍ, أَوْ فَاسِقٍ يَأَخُذُ عَنْهُ العِلْمَ, وخَافَ أنْ يَتَضَرَّرَ المُتَفَقِّهُ بِذَلِكَ, فَعَلَيْهِ نَصِيحَتُهُ بِبَيانِ حَالِهِ, بِشَرْطِ أنْ يَقْصِدَ النَّصِيحَةَ, وَهَذا مِمَّا يُغلَطُ فِيهِ. وَقَدْ يَحمِلُ المُتَكَلِّمَ بِذلِكَ الحَسَدُ, وَيُلَبِّسُ الشيطان عَلَيْهِ ذَلِكَ, ويُخَيْلُ إِلَيْهِ أنَّهُ نَصِيحَةٌ فَليُتَفَطَّنْ لذلك.

* ومنها: أن يكون له ولاية لايقوم بها على وجهها، إما بأن لايكون صَالِحاً لَهَا، وإما بِأنْ يكونَ فَاسِقاً, أَوْ مُغَفَّلاً, وَنَحوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ ولايةٌ عامَّةٌ لِيُزيلَهُ, وَيُوَلِّيَ مَنْ يُصْلحُ, أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيُعَامِلَهُ بِمُقْتَضَى حالِهِ, وَلاَ يَغْتَرَّ بِهِ, وأنْ يَسْعَى في أنْ يَحُثَّهُ عَلَى الاسْتِقَامَةِ أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ.

الخامِسُ: أنْ يَكُونَ مُجَاهِراً بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كالمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الخَمْرِ, ومُصَادَرَةِ النَّاسِ, وأَخْذِ المَكْسِ؛ وجِبَايَةِ الأمْوَالِ ظُلْماً وَتَوَلِّي الأمُورِ الباطِلَةِ, فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ؛ وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العُيُوبِ, إِلاَّ أنْ يكونَ لِجَوازِهِ سَبَبٌ آخر مما ذكرناه.___

السَّادِسُ: التعرِيفُ، فإذا كَانَ الإنْسانُ مَعْرُوفاً بِلَقَبٍ, كالأعْمَشِ, والأعرَجِ, والأَصَمِّ, والأعْمى, والأحْوَلِ, وغَيْرِهِمْ جاز تعريفهم بذلك, ويحرم إطلاقه على جهة التنقص, ولو أمكن تعريفهم بِغَيرِ ذَلِكَ كَانَ أوْلَى.

فهذه ستَّةُ أسبابٍ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وأكثَرُها مُجْمَعٌ عَلَيْهِ, وَدَلائِلُهَا مِنَ الأحادِيثِ الصَّحيحَةِ مشهورَةٌ." اهـ

 

ومنه: أن نفقة الأولاد واجبة على الأب، وأنه يختص بها، لا تشاركه الأم فيها ولا غيره.____

وكذلك فيه: وجوب نفقة الزوجة، وأن مقدار ذلك الكفاية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك»

وأن الكفاية معتبرة بالعرف، بحسب أحوال الناس: في زمانهم ومكانهم، ويسرهم وعسرهم،

وأن المنفق إذا امتنع أو شح عن النفقة أصلا أو تكميلا، فلمن له النفقة أو يباشر الإنفاق أن يأخذ من ماله، ولو بغير علمه، وذلك لأن السبب ظاهر، ولا ينسب في هذه الحالة إلى خيانة،

فلا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تخن من خانك» [د][1].

وهذا هو القول الوسط الصحيح في مسألة الأخذ من مال من له حق عليه بغير علمه بمقدار حقه،

وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز ذلك، إلا إذا كان السبب ظاهرا، كالنفقة على الزوجة والأولاد والمماليك ونحوهم، وكحق الضيف.

ومنه: أن المتولي أمرا من الأمور يحتاج فيه إلى تقدير مالي يقبل قوله في التقدير؛ لأنه مؤتمن، له الولاية على ذلك الشيء.

ومنه: أن للمستفتي فتوى لها تعلق بالغير، إذا غلب على ظن المسؤول صدقه لا يحتاج إلى إحضار ذلك الغير، وخصوصا إذا كان في ذلك مفسدة، كما في هذه القضية، فإنه لو أحضر أبا سفيان لهذه الشكاية، لم يؤمن أن يقع بينه وبين زوجه ما لا ينبغي.

وليس في هذا دلالة على الحكمِ على الغائب؛ فإن هذا ليس بحكم. وإنما هو استفتاء. والله أعلم." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 62)

في فوائده:

1 - (منها): بيان جواز حكم الحاكم على الغائب إذا تيقّن ثبوت الحقّ عليه، وسيأتي بيان المذاهب في القضاء على الغائب في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 - (ومنها): جواز ذِكر الإنسان بما لا يُعجبه، إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء، ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة، وهي ستة مواضع ذكرها النوويّ في كتابه "رياض الصالحين" (ص 673)، فقال رحمه الله: إن غِيبة الرجل حيًّا وميتًا تُباح لغرض شرعيّ، لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهي ستّةٌ:

[الأول]: التظلّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلّم إلى السلطان، والقاضي، وغيرهما، فيقول: ظلمني فلانٌ بكذا.

[الثاني]: الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصده التوصّل إلى إزالة المنكر.

[الثالث]: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل يحلّ له ذلك؟ ، فهذا جائز للحاجة.

[الرابع]: تحذير المسلمين من الشرّ، ونصيحتهم، وذلك من وجوه:____

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 63)

[منها]: جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائزٌ بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.

[ومنها]: المشاورة في مصاهرة إنسان.

[ومنها]: إذا رأى متفقّهًا يتردّد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم.

[ومنها]: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها.

[الخامس]: أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، ومُصادرة الناس، وأخذ المُكس، وجباية الأموال ظلمًا.

[السادس]: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأصمّ، والأعمى، والأحول، وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرُم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أَولى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله مختصرًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وقد نظمت هذه المواضع الستة بقولي:

يَا طَالبًا فَائِدَةً جَلِيلَهْ ... اعْلَمْ هَدَاكَ اللهُ لِلْفَضِيلَهْ

أَنَّ اغْتِيَابَ الشَّخْصِ حَيًّا أَوْ لَا ... مُحَرَّمٌ قَطْعًا بِنَصٍّ يُتْلَى

لكِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحِ ... أُبِيحَ عَدَّهَا ذَوُو الترجِيحِ

فَذَكَرُوهَا سِتَّةً تَظَلَّمٍ ... وَاسْتَفْتِ وَاسْتَعِنْ لِرَدْعِ مُجْرِمِ

وَعِبْ مُجَاهِرًا بِفِسْقٍ أَوْ بِدَعْ ... بِمَا بِهِ جَاهَرَ لَا بِمَا امْتَنَعْ

وَعَرِّفَنْ بِلَقَبٍ مَنْ عُرفَا ... بِهِ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ الأَحْنَفَا (1)

وَحَذِّرَنْ مِنْ شَرِّ ذِي الشَّرِّ إِذَا ... تَخَافُ أَنْ يُلْحِقَ بِالنَّاسِ الأذَى

وَفِي سِوَى هَذَا احْذَرَنْ لَا تَغْتَبِ ... تَكُنْ مُوَفَّقًا لِنَيْلِ الأَرَبِ

3 - (ومنها): جواز ذِكر الإنسان بالتعظيم، كاللقب والكنية، كذا قيل، وفيه نظر لأن أبا سفيان كان مشهورًا بكنيته، دون اسمه، فلا يدل قولها: إن أبا سفيان على إرادة التعظيم.

4 - (ومنها): جواز استماع كلام أحد الخصمين في غَيبة الآخر.____

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 64)

5 - (ومنها): أن من نَسب إلى نفسه أمرًا عليه فيه غضاضة، فليقرُنه بما يقيم عُذره في ذلك.

6 - (ومنها): جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء، عند من يقول: إن صوتها عورة، ويقول: جاز هنا للضرورة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بكون صورة المرأة عورة قول ضعيف، كما سبق بيانه في غير موضع، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

7 - (ومنها): أن القول قول الزوجة في قبض النفقة؛ لأنه لو كان القول قول الزوج: إنه منفق، لكُلِّفت هذه البينة على إثبات عدم الكفاية. وأجاب المازري عنه بأنه من باب تعليق الفتيا، لا القضاء.

8 - (ومنها): وجوب نفقة الزوجة، وأنها مقدَّرة بالكفاية، وهو قول أكثر العلماء، وهو قول للشافعيّ، حكاه الجوينيّ، والمشهور عن الشافعيّ، أنه قدّرها بالأمداد، فعلى الموسر كل يوم مُدّان، والمتوسط مُدٌّ ونصف، والمعسر مُدّ، وتقريرها بالأمداد رواية عن مالك أيضًا، قال النووي في "شرح مسلم": وهذا الحديث حجة على أصحابنا.

قال الحافظ: وليس صريحًا في الرد عليهم، لكن التقدير بالأمداد محتاج إلى دليل، فإن ثبت حُملت الكفاية في حديث الباب على القَدْر المقدَّر بالأمداد، فكأنه كان يعطيها، وهو موسر ما يعطي المتوسط، فأَذِن لها في أخذ الكمية، وقد اختُلف في ذلك.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تعقُّب الحافظ على النوويّ مما لا وجه له؛ فإن النوويّ إنما اعترض على أصحابه لعدم وجود دليل يدلّ على التقدير بالأمداد، وقد اعترف الحافظ نفسه بذلك، فكيف يتأتّى له التعقّب بالاحتمال؟ ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

9 - (ومنها): اعتبار النفقة بحال الزوجة، وهو قول الحنفية، واختار الخصاف منهم أنها معتبرة بحال الزوجين معًا، قال صاحب "الهداية": وعليه الفتوى، والحجة فيه ضمّ قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية [الطلاق: 7] إلى هذا الحديث. وذهبت الشافعية إلى اعتبار حال الزوج؛ تمسكًا بالآية، وهو قول بعض الحنفية.___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 65)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو الظاهر؛ لقوّة دليله، والله تعالى أعلم.

10 - (ومنها): وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة، والأصح عند الشافعية اعتبار الصغر، أو الزمانة.

11 - (ومنها): وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج، قال الخطابيّ: لأن أبا سفيان كان رئيس قومه، ويَبْعُد أن يمنع زوجته وأولاده النفقة، فكأنه كان يعطيها قَدْر كفايتها وولدها، دون من يخدمهم، فأضافت ذلك إلى نفسها؛ لأن خادمها داخل في جملتها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الخطّابيّ محلّ نظر، فليتأمّل، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يُتمسك لذلك بقوله في بعض طرقه: "أَنْ أُطعم من الذي له عيالنا".

12 - (ومنها): أنه يدلّ على وجوب نفقة الابن علي الأب، ولو كان الابن كبيرًا.

وتُعُقّب بأنها واقعة عين، ولا عموم في الأفعال، فيَحْتَمِل أن يكون المراد بقولها: "بنيّ" بعضهم: أي: من كان صغيرًا، أو كبيرًا زَمِنًا، لا جميعهم.

13 - (ومنها): أنه استُدِلّ به على أن من له عند غيره حقّ، وهو عاجز عن استيفائه، جاز له أن يأخذ من ماله قَدْر حقه بغير إذنه، وهو لمحول الشافعيّ، وجماعة، وتُسمَّى "مسألة الظَّفَر"، والراجح عندهم: لا يأخذ غير جنس حقه، إلا إذا تعذر جنس حقه، وعن أبي حنيفة: المنع، وعنه: يأخذ جنس حقه، ولا يأخذ من غير جنس حقه، ، إلا أحد النقدين بدل الآخر، وعن مالك ثلاث روايات، كهذه الآراء، وعن أحمد المنع مطلقًا.

قال الخطابيّ: يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس، وغير الجنس؛ لأن منزل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة، والكسوة، وسائر المرافق اللازمة، وقد أطلق لها الإذن في أخذ الكفاية من ماله، قال: ويدل على صحة ذلك قولها في رواية أخرى: "وأنه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي".____

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 66)

وتعقّبه الحافظ بأنه لا دلالة فيه لِمَا ادّعاه من أن بيت الشحيح لا يحتوي على كل ما يحتاج إليه؛ لأنها نفت الكفاية مطلقًا، فتناول جنس ما يحتاج إليه، وما لا يحتاج إليه، ودعواه أن منزل الشحيح كذلك مسلّمة، لكن من أين له أن منزل أبي سفيان كان كذلك؟ والذي يظهر من سياق القصة أن منزله كان فيه كل ما يحتاج إليه، إلا أنه كان لا يمكّنها إلا من القَدْر الذي أشارت إليه، فاستأذنت أن تأخذ زيادة على ذلك بغير علمه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن تعقّب الحافظ على استدلال الخطّابيّ محلّ نظر، فإن استدلاله واضح، والله تعالى أعلم.

وقد وجه ابن الْمُنَيِّر قوله: إن في قصة هند دلالةً على أن لصاحب الحق أن يأخذ من غير جنس حقه، بحيث يحتاج إلى التقويم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن لهند، أن تفرض لنفسها وعيالها قَدْر الواجب، وهذا هو التقويم بعينه، بل هو أدقّ منه، وأعسر.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن المنيّر رحمه الله تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم.

14 - (ومنها): أنه استُدِلّ به على أن للمرأة مدخلًا في القيام على أولادها، وكفالتهم، والإنفاق عليهم.

15 - (ومنها): أنه استُدلّ به على جواز حكم الحاكم بعلمه، وقد اختلف أهل العلم فيه، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

16 - (ومنها): اعتماد العُرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قِبَل الشرع، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه اعتبار العرف في الشرعيات، خلافًا لمن أنكر ذلك لفظًا، وعمل به معنًى، كالشافعية. كذا قال، والشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف، إذا عارضه النص الشرعي، أو لم يُرشد النص الشرعي إلى العرف.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: أشكل على بعضهم استدلال البخاريّ رحمه الله بهذا الحديث على مسألة الظَّفر، في "كتاب الإشخاص"، حيث ترجم له: "قِصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه"، واستدلاله به على جواز القضاء على الغائب؛ لأن الاستدلال به على مسألة الظفر، لا تكون إلا على القول بأن___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 67)

مسألة هند كانت على طريق الفتوى، والاستدلال به على مسألة القضاء على الغائب، لا يكون إلا على القول بأنها كانت حُكمًا.

[والجواب]: أن يقال: كل حكم يصدر من الشارع، فإنه ينزَّل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة، فيصح الاستدلال بهذه القصة للمسألتين. انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 



[1] صحيح: أخرجه أبو داود (رقم: 3518), والترمذي (رقم: 1282)، وانظر: "السلسلة الصحيحة" (رقم: 423) – ط. المعارف

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة